
.
.
*صحيفة الكرامة – منى أبوزيد*
!*
*”الحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب”.. مالك بن نبي..!*
مع بشريات تحرير الخرطوم وهزيمة المليشيا يبرز كتاب “اعتدلوا، نظرات في الثورة والحرب في السودان” لمؤلفه الأستاذ الدكتور “قرشي محمد علي” – الأكاديمي المرموق ومؤسس الجامعة الوطنية – كبادرة فكرية يُبشِّر بها عمل استثنائي، يجمع بين الشهادة على العصر والتحليل العميق للأحداث، واجتراح الحلول بحكمة قلَّ أن تُجارى، وذكاء عاطفي وبسالةٍ معرفية يتقدمها ورع علمي ويَحدُّها التواضع من جميع الجهات..!
مؤلف الكتاب لم يكن مجرد مراقب للأحداث بل كان جزءاً منها، عاش تفاصيل الثورة السودانية لحظةً بلحظة من موقعه كمواطن لصيق بظروفها وأسباب اندلاعها وكرئيس للجامعة الوطنية، ثم كان شاهداً على أحداث الحرب من موقع إدارته للجامعة الوطنية ببورتسودان، الأمر الذي منح هذا الكتاب – إلى جانب التجارب الزاخرة والمعارف المتراكمة – بعداً إنسانياً واجتماعياً وسياسياً نادراً..!
في كتاب “اعتدلوا” يمزج المؤلف بين خبراته الشخصية ومقدراته التحليلية فينفذ إلى ماوراء الأحداث مقدماً رؤيةً تتجاوز السرد الشيق أو النقد التقليدي إلى استكشاف أعمق الأسباب واستخلاص أخطر النتائج، بأسلوب يعكس التزاماً بالفهم قبل الحكم وانحيازاً إلى التأمل الحر قبل الجنوح إلى الاستنتاج، وهو بذلك لا يسعى إلى توثيق ما حدث على طريقته فحسب، بل يدعو إلى فهم كيف ولماذا حدث، وما الذي يمكن استخلاصه من كل ذلك من أجل مستقبل السودان..!
يتكون الكتاب من أربعة فصول، يقدم المؤلف في كل فصل منها تحليلات ومعالجات متعمقة لجوانب مختلفة من الثورة والحرب، وقد جاء الفصل الأول بعنوان “أسباب ودواعي الثورة والحرب” وفيه يناقش المؤلف الجذور العميقة للأحداث محللاً السياقات السياسية والاجتماعية التي أدت إلى اندلاع الثورة وقيام الحرب من خلال عناوين محورية “ادعاءات التهميش، الانقلاب، الفساد، المفاصلة، التلفيق، اغتيال الشخصيات، طاعة ولي الأمر، الرأي والمكيدة، التصنيع الحربي، الذهب القاتل الذي ذهب، حميدتي وأمن البشير، حمدوك الإنقاذ، الفصل التعسفي من الوظائف المدنية والعسكرية، الجهادية الاستشهادية، التوافقية المذهبية، الرقابة السلوكية، الاختناقات المصرفية، الدعم السريع، غلطة اليمن، التفريط في الشرطة، ومعالجة القبلية” وهي كما ترى خلاصة القضايا التي تمثل جذور محنة السودان السياسية والاقتصادية..!
أما الفصل الثاني “مناكفات الشركاء والغرماء” فقد استعرض فيه المؤلف صراعات القوى المختلفة في السودان، ومظاهر التوتر وصور التناقض بين الفاعلين السياسيين، تحت عناوين عديدة “أول ضحايا الثورة، خلفيات الرؤية الخاصة للثورة، الشتم والشماتة، الجراءة ومحاولة تبديل الثوابت، صراعات وصراعات، ذو النون حمدوك، حمدوك والمبعوث الأممي والجيش، الديموكتاتورية، التخريب والإنكار، الارتزاق والعمالة، حميدتي والبعد الدولي، وزارة الخارجية، التفكيكان والجامعة المتهمة، وتغريدة الأستاذ حمور زيادة في ١٥ فبراير ٢٠١٩م”، وهي موضوعات تعكس وتؤصِّل لمظاهر تعقيدات المشهد السياسي في السودان..!
في الفصل الثالث “مغالطات الحرب” يفكك المؤلف السرديات الشائعة حول الصراعات ويسلط الضوء على الأخطاء التي شكلت رؤية البعض للأحداث “هل هذه حرب، هل هنالك علاقة بين الجهادية وعناصر الدعم السريع، من بدأ الحرب والتخطيط لها، هل يساهم الإسلاميون في الحرب ضد الجنجويد، وهل انهزم الدعم السريع”..!
أما الفصل الرابع “التعليم والبحث العلمي في الثورة والحرب” فيستعرض فيه المؤلف تأثير أحداث الثورة والحرب على قطاع التعليم والبحث العلمي في السودان، ويقف عند بعض مظاهر عدم التفريق بين السياسة والعمل أيام الثورة، وتجاوز الطلاب لنظم جامعاتهم وتحدِّيهم لمؤسساتهم، فضلاً عن التحدِّيات التي واجهت التعليم نفسه خلال الحرب، وحال الجامعات بعد الحرب..!
ما يميز هذا الكتاب هو صدقه في نقل التجربة دون مواربة أو انحياز “يتحدث عن الثورة فينقل حماسة اللحظة وآمالها، ويتحدث عن الحرب فيعكس قسوتها وفظاعتها دون أن يفقد الموضوعية”، والحقيقة أن هذا التوازن بين التفاعل الشخصي والتحليل العقلاني هو ضمن جملة أسباب عديدة تجعل منه إضافة ثمينة للمكتبة السودانية..!
لا يمكن قراءة هذا الكتاب دون الشعور بالاحترام العميق لجهد ومنطلقات الكاتب الذي لم يكتفِ بأن يكون شاهداً، بل اختار أن يكون مؤرخاً باحثاً عن المعنى بين الركام. إنه عمل يستحق الاحتفاء ويستوجب الثناء، ليس لما يقدمه من معلومات وإضاءات ورؤى وتحليلات ومقترحات فحسب، بل لما ينطوي عليه من شجاعة فكرية نادرة ونبل في المقاصد وأمانة في الطرح..!
“اعتدلوا” ليس مجرد كتاب عن الثورة والحرب بل هو شهادة صادقة على العصر، ومطارحة فكرية تُحرِّض على إعادة النظر في معظم السرديات المتداولة عن الأحداث الكبرى التي شكلت حاضر السودان!.
munaabuzaid2@gmail.com