
كتب:سامي الأمين
في أعقاب الحرب التي دمّرت مطار الخرطوم الدولي والكثير من الطائرات الرابضة فيه وتدمير مستودعات التموين وغيرها ، بدأ الجدل حول مستقبل المطار الاول في البلاد المدني .. هل نعيد بناء المطار القديم في موقعه الحالي بقلب العاصمة؟ أم ننشئ مطارًا جديدًا بالكامل في منطقة نائية كما هو مقترح مثل “الصالحة”؟.
وسط طموحات مشروعة لإحياء قطاع النقل الجوي، تبرز ضرورة اتخاذ قرار عقلاني، مدروس، واقعي من حيث التكاليف، قابل للتنفيذ، ويخدم أهداف السودان الاستراتيجية خلال الخمسة عشر سنوات المقبلة.
الحركة الجوية في السودان لا تتجاوز اليوم 3 ملايين مسافر سنويًا، والأساطيل للشركات السودانيه مدمّرة، والبنية المؤسسية هشّة. لكن المقارنة الدقيقة بين الخيارين تكشف أن إعادة إعمار المطار الحالي، وفق تصميم جديد وحديث، ربما يكون هو الخيار الأذكى والأكثر واقعية.
اولا _الموقع الحالي فرصة استراتيجية لا يجب التفريط فيها
يتمتع الموقع الحالي لمطار الخرطوم بميزة لا تقدّر بثمن: قربه من قلب النشاط الإداري، الاقتصادي، والسياسي في العاصمة.
تربطه شبكة طرق رئيسية وكباري مباشرة بمعظم أحياء الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، من خلال شارع أفريقيا، شارع عبيد ختم، شارع البلدية، وكبري القوات المسلحة.
هذا الموقع يوفّر ما لا يمكن شراؤه: سهولة الوصول للركاب، سرعة في الاستجابة الأمنية، وربط مباشر مع الوزارات، الفنادق، شركات الطيران، والبعثات الأجنبية.
إن وجود المطار داخل المدينة ليس مشكلة في حد ذاته، بل على العكس، يمثل قيمة مضافة إذا حُسن استغلاله.
أمثلة كثيرة تؤكد ذلك:
مطار هيثرو – لندن: أحد أكثر المطارات ازدحامًا في العالم، يقع في قلب الكثافة السكانية غرب لندن.
مطار أورلي – باريس: يبعد فقط 13 كم عن وسط باريس.
مطار ناريتا – طوكيو ومطار إسطنبول القديم (أتاتورك) خدموا عشرات الملايين داخل المدن.
مطار جنيف – سويسرا يلاصق وسط المدينة ويُعتبر من أنجح المطارات الأوروبية من حيث الكفاءة التشغيلية.
المشكلة ليست في القرب الجغرافي، بل في التخطيط الذكي والتصميم المتوازن الذي يدمج المطار مع النسيج العمراني ويقلل التداخلات السلبية.
ثانيا_جدوى اقتصادية واقعية مقارنة بإنشاء مطار جديد
في الوضع الحالي، الحديث عن إنشاء مطار جديد بالكامل في منطقة نائية مثل الصالحة هو طرح مكلف وغير عملي على المدى القصير، للأسباب التالية:
التكلفة: إنشاء مطار جديد يحتاج إلى بنية تحتية من الصفر (مدرجات، طرق، أنظمة، محطات، كهرباء، صرف، نقل)، بتكلفة ضخمة . بينما إعادة إعمار المطار الحالي بتصميم جديد يمكن أن يتم بمبلغ معقول يتم تمويله بضمان عوائد العبور للملاحة الجوية اضافة الي استخدام جزء من البنية المتبقية وتوسعة النطاق العمراني المحيط.
زمن التنفيذ: مطار جديد سيستغرق سنوات عديدة للبناء والتشغيل، بينما يمكن إعادة تأهيل المطار الحالي خلال مده اقل كثيرا وهو فارق حاسم في إعادة ربط السودان بالعالم سريعًا.
الربط بشبكات النقل: الصالحة تحتاج إلى توسعة طرق، بناء كباري، ومد خطوط كهرباء ومياه واتصالات، بتكاليف قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات. بينما المطار الحالي محاط بشبكة جاهزة وكاملة.
التأمين والحماية: الموقع الحالي قريب من مقار القوات النظامية، ويمكن تأمينه بسرعة عبر نقاط ثابتة ومراقبة تقنية. أما موقع جديد في منطقة مكشوفة مثل الصالحة، فسيتطلب تأمينًا على محيط واسع بكثافة بشرية عالية ، ما يرفع التكاليف ويعرض المنشأة للخطر.
نقل الشبكات العاملة: جميع شركات المناولة الأرضية، الشحن، الوقود، التموين، والخدمات الفنية، تعمل اليوم من مقار محيطة بالمطار الحالي. نقلها إلى مطار جديد يتطلب بناء منشآت جديدة وتحمل الشركات المتضررة أصلاً لتكاليف إضافية قد تعيق عودتها للعمل.
الركاب والشحن: موقع المطار الحالي يسهل على الركاب المحليين والدوليين التنقل، ويقلل زمن تحميل وتوزيع الشحنات الجوية. مطار جديد سيُضيف تكاليف لوجستية على كل رحلة، ما سيضعف القدرة التنافسية للسودان كمركز عبور.
ثالثا _ اعادة اعمار بتصميم جديد… برؤية معاصرة
إعادة إعمار المطار الحالي لا تعني ترميم مبنى قديم فقط ، بل تحويله الي مطار حديث التصميم، متكامل الوظائف، صديق للبيئة، وجاذب للركاب والمستثمرين يستوعب حركة ترانزيت داعمة لنمو شركاتنا الوطنيه ومحفزا لشراكات مع شركات طيرانيه كبيرة .
يمكن تصميم مبنى جديد للركاب يشبه مطار بولي بأديس أبابا، أو مطار الشارقة، بطاقة أولية تبلغ 5 ملايين راكب سنويًا، وقابل للتوسع إلى 10 ملايين بسهولة.
يشمل التصميم الجديد:
صالات رحلات دولية ومحلية مستقلة.
مركز للشحن الجوي مجهز بالكامل لتصدير اللحوم والذهب والخضروات والفواكه .
منطقة مخصصة للطيران منخفض التكلفة.
فندق داخل المطار لخدمة الترانزيت.
منطقة تجارية تضم مولات حديثه، مطاعم، مكاتب، مراكز تدريب.
بهذا يتحول المطار إلى منشأة اقتصادية شاملة، لا مجرد بوابة سفر، ويصبح مركزًا للنشاط المدني والتجاري في العاصمة.
رابعا_فرص الأنشطة غير الطيرانية مفتاح الاستدامة
الموقع الحالي يتيح فرصًا كبيرة لتطوير أنشطة غير طيرانية يمكن أن تضاعف دخل المطار، وتفتح فرص عمل ضخمة.
تشمل هذه الأنشطة:
مراكز تسوق (مولات) داخل المطار ومحيطه.
مطاعم ومقاهي عالمية تخدم المسافرين والعامة.
مكاتب خدمات سفر وتأمين وتأشيرات.
مراكز تدريب للكوادر الفنية والإدارية.
تأجير مكاتب للشركات اللوجستية وشركات الطيران.
إقامة معارض موسمية أو فعاليات ثقافية داخل المطار.
كل هذه الأنشطة تعني تدفق إيرادات مستقرة، وقدرة على تغطية التكاليف التشغيلية دون الاعتماد الحصري على رسوم الركاب والطائرات.
خلاصة: الخيار الأفضل هو الأقرب إلى الواقع
ليس من المنطقي بناء مطار جديد بتكلفة عاليه وغير متوفرة حاليا في بلد خرج من حرب، ويحتاج إلى إعادة بناء مستشفياته ومدارسه .
كما أن تأخير تشغيل المطار لسنوات قادمة يعني حرمان السودان من فرصة الانفتاح على العالم واستعادة دوره الجوي. لذا الحل الواقعي هو :
إعادة إعمار مطار الخرطوم الحالي بتصميم جميل، حديث، قابل للتوسع.
استغلال موقعه المركزي لتطوير نشاط اقتصادي وتجاري متعدد الأبعاد.
تعزيز دوره كمركز إقليمي للربط الجوي والشحن.
هكذا يعود المطار عنوانا ومعلماجديدا للخرطوم لا عبئًا على الدولة.
طيران بلدنا