المقالات

هناك فرق – منى أبوزيد تكتب : أخطاء في إدارة الأخطاء..!

.
.

*صحيفة الكرامة – منى أبوزيد*

*”ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبية وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع، وعليه فإن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها”.. غوستاف لوبون..!

قبل أن تبدأ المحكمة الدستورية في كوريا الجنوبية النظر في قضية عزل رئيس البلاد، وقبل أن يقوم البرلمان بعزله من أساسه – بسبب محاولته فرض الأحكام العرفية – أعتذر الرئيس الكوري الجنوبي” يون سوك” لجماهير شعبه قبل أسابيع..!

“لن أسعى إلى التنصل من المسؤولية القانونية والسياسية عن قراري الذي كان نابعاً من شعوري باليأس، أنا آسف للغاية وأود أن أعتذر بصدق للأشخاص الذين أصيبوا الصدمة، وأترك لحزبي اتخاذ الخطوات اللازمة لاستقرار الوضع السياسي في المستقبل، بما في ذلك مسألة بقائي في السلطة”..!

التاريخ الحديث يحفظ لكوريا الجنوبية – أيضاً – اندلاع مظاهرات صاخبة في العام ٢٠٠٨م دامت لأسابيع احتجاجاً على موافقة رئيس الدولة على صفقة استيراد لحوم من الولايات المتحدة الأمريكية، وتمخضت عن اعتذار رئاسي شديد اللهجة..!

“الحكومة وأنا متأسفون بصدق على تجاهل المخاوف على الصحة العامة، كان قصدنا شريفاً، ضمان سلاسة التوصل إلى اتفاق بشأن التجارة الحرة، من أجل مصلحة الاقتصاد الوطني”..!

“لقد كنت على عجلة من أمري بعد انتخابي وظننت أنني لم أكن لأنجح ما لم يطرأ تغيير وإصلاح في غضون عام من تولي المنصب، كنت أريد اغتنام تلك الفرصة الذهبية للإسراع بانجاز اتفاق للتجارة الحرة مع واشنطن”، هكذا اعتذر الرئيس الأسبق “لي موينغ باك” لجماهير شعبه قبل بضعة عشر عام..!

أعتذر ثم حذّر المتظاهرين – بلطف – من احتمال ضياع فرصة تصديق ذلك الاتفاق خلال العام في حال استمرار الرفض الشعبي لأكل اللحوم الأمريكية، ثم طالب جماهير شعبه بالسماح للحكومة بإعادة المفاوضات بشأن جدوى تلك الصفقة كاملة وفي أسرع وقت ممكن ..!

ليس السياسيون وحدهم حتى مشاهير المجتمع ونجوم الفن في كوريا الجنوبية اعتادوا على الاعتذار للجماهير ووسائل الإعلام في حال ارتكاب أي خطأ، حتى صار الاعتذار العلني أمراً طبيعياً ومبدأً توجيهياً لشركات الإنتاج نفسها ..!

وهو كما ترى نهج ديموقراطي وتصوُّف سياسي يختلف كثيراً عن النمطي والسائد في صور الممارسة السياسية في مجتمعاتنا، رغم التأصيل الرائع – الذي يسود معظم الأضابير – لثقافة الاعتذار السياسي في الإسلام..!

لا يعتذر المسئولون في العالم الأول لأنّهم ملائكة بل لأنّهم يعلمون أنّ الاعتذار هو أقصر الطرق للخروج من المآزق الأخلاقية، والحفاظ على صورهم ومكانتهم في نفوس الجماهير، وهو كما ترى سلوك براغماتي أقرب إلى الذكاء منه إلى النزاهة..!

أسلوب التربية في مجتمعاتنا لا يشجع على فكرة الاعتذار، إلى حد الاعتقاد بأن كلمة آسف تتنافى مع ما تتطلبه الرجولة من رباطة جأش وقوة شكيمة، لأجل ذلك تهرع الشخصيات الاعتبارية قبل الفردية، إلى الاستماتة في تبرير الخطأ عوضاً عن الاعتراف بوقوعه ..!

نحن بلد مكابر حكومة وشعباً “مجتمع يتعامل مع أخطائه الناتجة عن عشوائية أو سوء تقدير بمنطق مُكابر على صعيد الخاص والعام، وحكومات متعاقبة تُفلسف أخطاءها السياسية على طريقة الخطأ في إدارة الخطأ” ..!

لذلك تجد أن الثقافة السائدة عندنا هي اللف والدوران حول المشكلة عوضاً عن الاعتراف بوقوعها، فكلمة” آسف” عند معظمنا ثقيلة وعصيَّة على الفؤاد قبل اللسان..!

بعد تفكير عميق في معضلة المكابرة القومية هذه أقترح – وبمنتهى الجديَّة – تضمين مواد عن “ثقافة الاعتذار وفنون إدارة الخطأ” في المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية، باعتبار أن زراعة السلوك القومي الناجح تبدأ منذ تلك المرحلة ..!

كلمة “آسف” لها وزنها وقيمتها الرسمية والشعبية ومفعولها الساحر الذي يغسل الغضب ويلين أشد المواقف صلابة، محلية كانت أم دولية، والوجه الآخر للمبادرة بالاعتذار هو الصفح  الجميل ..!

وكلاهما من فضائل السلوك ومكارم الأخلاق التي لا تُباع في محلات السوبر ماركت ولا تُشترى من الصيدليات، بل تُنقش في سلوك الفرد وثقافة المجتمع منذ الصغر!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *