المقالات

رندة المعتصم اوشي تكتب : رحل الرمح الملتهب

في عالمٍ تكتنفه لحظات مرهونة بالزمن، يظل الفقد مفجعًا في كل مرة. ها هو رحيل علي قاقارين، ذلك الرجل الذي كان جسراً بين أجيالٍ وأزمنة، تربطه صداقة وطيدة مع والدي، المؤرخ الرياضي المعتصم أوشي.

أذكر، وكأنها لحظة من الماضي الذي لا يموت، تلك الدعوة التي كانت بين يدي والدي حين قررنا حضور مراسم زفاف ابنة علي قاقارين. كان علي، بأدبه وحبه للرياضة، حريصًا على أن أكون جزءًا من تلك اللحظة، يرغب في أن يتعرف عن كثب على أصدقائه الذين منحوا الرياضة روحًا لا تُنسى. كانت الأجواء مليئة بالفرح، والعلاقات التي تشبه الأنسام الطيبة، كأنها احتفاء ليس فقط بحياة جديدة تبدأ، بل أيضًا بمسار طويل من الصداقات التي لا تنتهي.

لكن، بعد أن خطف الموت والدي، فوجئت بحضور قاقارين وهو يحاول منع دموعه من أن تسيل أمامنا، يُخبرنا بصوت اجش ملئ بالحزن تطوقه العبره أنه كان يرسل الرسائل الصباحية لوالدي كل يوم، على أمل أن يتلقى ردًا. ولكن كانت الأيام تمضي، ورسائل قاقارين تبقى حروفًا ساكنة في فضاء مجهول. كيف لم يعلمه أحد؟ كيف لم يلتقط تلك الأشارات؟ لم يكن يعلم إلا بالصدفة، كأنها ضربة سهم في قلبه، أن الفراق كان قد حل.

لطالما كانت علاقة قاقارين بوالدي أكثر من مجرد علاقة صداقة؛ كانت أخوة، كانت امتداداً لشغف مشترك لا يفهمه إلا من غرق في بحر الرياضة وثرائها التاريخي. كان قاقارين يشارك والدي أفراحه وأتراحه، يحاوره عن كل تفاصيل الرياضة، كما لو أن حروف التاريخ الرياضي كانت هي ذاتها التي تنبض في قلوبهم. وفي تلك اللحظات الهادئة، كان قاقارين يشعر بمسؤولية تجاه هذا الرجل الذي يعشق الكلمات كما يعشق الملعب، فكان يتمنى دائمًا أن يراه سعيدًا، مليئًا بالأمل، يكتب، ويبحث، ويقرأ.

لكن الفقد في النهاية يظل أكبر من أي أمنية. رحل والدي، وتركت تلك الرحلة التي بدأها مع قاقارين فراغًا في قلبه وفي قلوبنا جميعًا. كانت تلك اللحظة التي اكتشف فيها قاقارين أننا لا نملك دائمًا حق الوصول إلى الآخرين، ولكننا نملك أن نزرع فيهم محبتنا، أملنا، وأصواتنا التي تظل تُسمع حتى بعد أن تغلق الأبواب. كلمات قاقارين التي حملها إليّ كانت تُطوق بحزن، لكنها في ذات الوقت كانت مملوءة بالعرفان والشكر لأبٍ كان بالنسبة له أكثر من مجرد صديق، بل رفيقًا في الحياة.

اليوم، ونحن نذكر رحيل علي قاقارين، نجد أن الكلمات قد لا تكفي لتقديم العزاء. فهو لم يكن مجرد شخص عابر، بل كان جزءً من مسار طويل شارك فيه والدي وأصبح جزءً لا يتجزأ من التاريخ الرياضي الذي جاهدوا جميعًا في كتابة فصوله. رحيله عن هذه الدنيا يجعلنا ندرك كم أن الحياة قصيرة، وأن لحظات الصداقة والمودة هي التي تترك آثارا لا تُمحى.

إن الذاكرة تحمل لنا صورة علي قاقارين، وأمامه صورة والدي المعتصم أوشي، كأنهما يبتسمان معًا في مكان ما، يتبادلان الذكريات، وتظل تلك العلاقة راسخة في قلوبنا، ذكرى عطرة لا تنقضي، تبقى أبدية كالنجم الذي لا يغيب.
رحمكما الله واسكنكما فسيح جناته ترفلان في نعيم دائم بإذنه تعالى
ولا نقول الا ما يرضى الله “انا لله و انا اليه راجعون “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *