المقالات

هناك فرق – منى أبوزيد تكتب : طاقة الصمت..!

“الصمت ليس فراغاً ، بل هو امتلاء آخر بالكلام، وحضور هادئ لذورة المعنى”.. الكاتبة..!

كانت المدارس الداخلية الكبرى في السودان – حنتوب وخور طقت مثالاً– تُدير حياة الطلاب على الإيقاع الإنجليزي الصارم. جرس للاستيقاظ، جرس لتناول الطعام، جرس لممارسة الرياضة، وأهم تلك الأجراس كان جرس الثانية ظهراً، حين يهبط الصمت على مختلف العنابر لساعتين كاملتين..!

لا صوت مذياع، لا وشوشة، لا مذاكرة في كتاب، والطلاب مستلقون في أسرتهم كأنهم يتعلمون كيف يُحاورون أنفسهم قبل أن يحاوروا بقية العالم. ثم يخرجون إلى المكتبات والملاعب بأرواح أخف وعقول أصفى..!

تلك “الساعات المفروضة من الفراغ” كانت من أبلغ دروس التربية، وهذا ما ذهبت بعض الدراسات الحديثة من أن الصمت التام لبعض الوقت دواء للعقل والجسد..!

محمود درويش قال إننا “لو أرهفنا السمع إلى صوت الصمت لصار كلامناً أقل”، وأحلام مستغانمي أكدت أن “على المرأة أن تتعلم لغة صمت الرجل، فهناك صمت التحدي وصمت العشق وصمت الألم”. أما الشاعر محمود أبو بكر فقد قال على لسان المطرب خضر بشير “إن يكن صمتي رهيباً، إن في الصمت كلاماً”. ثم أن أكثر الأصوات سطوة في مجتمع الإنسانية هي تلك التي لا تُسمع..!

العلم أيضاً لم يترك الصمت في منطقة الظلال. فتمارينه – كما تقول بعض مصادر دراسات الطاقة – تبدأ بست ساعات وتصل إلى ثلاثة أيام، وفيها تتجدد خلايا الدماغ، ويصفو الفكر، وتغتسل النفس من شوائب القلق. وتغلق لهالة المحيطة بالجسد على الطاقة السلبية، وتفتح أبواب الإيجابية، وكأن الصمت يصبح بذلك درعاً واقياً ضد ضجيج شرور هذا العالم..!

أما الدكتور علي منصور كيالي فقد مضى أبعد من الجميع، فأعلن عن مجربة روحانية لعلاج العقم بالصمت، مستنداً إلى قوله تعالى “قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويا”. ومؤكداً أن هنالك من طبقوا طريقته تلك، ورُزقوا بأطفال، بعد أن أعيتهم محاولات العلاج في عيادات الأطباء ..!

حديث الدكتور منصور كيالي أثار فضولي كثيراً فسألت بعض شيوخ الدين الذين قالوا بأن أن الصوم عن الكلام فعل خاص بالأنبياء، ولا يجوز تعميمه. وهي كما ترى إجابة تغلق الباب بإحكام، ولا تفتح أي نافذة لمرور نسمة أمل ..!

في الحقيقة لم أقتنع. ربما لأنني أرى أن الصوم عن الكلام ليس عبادة موقوفة على امتياز النبوة فحسب، بل هو ميراث بشري أيضاً..!

الصمت الطويل الذي فرضته تلك المدارس على طلابها لم يُنبت فيهم امتيازاً روحانياً خاصاً أو ادعاء نبوة، لكنه أنبت صبراً وهدوءاً وحكمة. وما الحكمة إلا شكلٌ من أشكال الوحي الأرضي!.

munaabuzaid2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *