
*”المعارضة تحتاج إلى شجاعة، لكن معارضة المعارضة تحتاج إلى قدر أكبر من الشجاعة، فالتشكيك عمل جرئ، لكن التشكيك بذلك التشكيك هو عمل أكثر جرأة” .. د.أحمد خالد توفيق ..!
كتب الأستاذ وائل عمر عابدين على صفحته بموقع “فيس بوك” أن أحد الساسة السودانيين قد اتصل به قبل سنوات – أثناء إقامته في بريطانيا – وأرسل له مسوّدة عريضة كانوا يودون تقديمها إلى مجلس العموم البريطاني ووزارة الخارجية هناك، مفادها أن حكومة السودان قد استخدمت أسلحة كيميائية في إحدى قرى دارفور..!
وحين رفض التوقيع لأنه لم يقتنع بالاتهام، سأله ذلك السياسي لماذا؟. فأجابه وائل بأن العالم متربص بحكومة السودان، وأن مبالغة بهذا الحجم تعني نهايتها، فما الذي يدفعها للمغامرة باستخدام أسلحة كيميائية لضرب قرية نائية لا تشكل خطراً يذكر؟. فقال له ذلك السياسي المعارض للحكومة وهو يضحك “ياخ ده شغل سياسة”..!
أي سياسة هذه التي تجعل الكذب استراتيجية والمبالغة فيه بطولة؟. أي شطارة تلك التي تُحوِّل كذبة رعناء إلى لعنة أبدية في ذاكرة الأجيال؟. حين يسمع طفل في دارفور أن قريته قد أُبيدت بالغازات السامة، لن يسأل عن مصدر الخبر، بل سيحمله في قلبه كحقيقة دامغة، ويورثها كراهية متأصلة. هكذا يُصاغ العداء الوجودي وتُزرع بذور الانقسام الطويل..!
نعوم تشومسكي قال في كتابه “الإرهاب والإرهاب المضاد” إن حكومة السودان – أيام الإنقاذ – قدمت للأمريكان وثائق تكشف مخططاً للقاعدة لضرب منشآت أمريكية، لكن واشنطن رفضت التعامل معها بدافع الكراهية العمياء..!
والنتيجة – والحديث لتشومسكي – كانت وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي كان من الممكن تفادي وقوعها لولا غلبة الكراهية على العقل، والتضحية بأمان الشعب على مذبح الحسابات الصغيرة..!
المعارضة السودانية في الخارج صنعت مأساة العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على السودان في التسعينيات. ويومها لم يكن الحصار يستهدف جيوب المسؤولين، بل كان يحاصر أرواح البسطاء، مرضى يموتون لغياب الدواء، طلاب يعجزون عن شراء كتاب، وأمهات يقفن ساعات في صفوف الخبز. ومع ذلك ظل بعض المعارضين يتباهون بأنهم ساهموا في تلك العقوبات، وكأنهم انتصروا على خصومهم، بينما هم في الحقيقة كانوا يهزمون شعبهم..!
المشكلة أن هؤلاء قد تعلموا من خصومهم أسوأ دروس السياسة، الكيد، التلفيق، والاستثمار في الخوف. هذا النوع من المعارضة لا يعارض ظلم الحكومات بقدر ما يعارض الوطن نفسه، لأنه يعلم أن العقوبات لا تعني سجناً للقادة ولا مصادرة لقصورهم، بل تعني خبزاً مفقوداً ودواءً نادراً وطفلاً جائعاً في أقصى قرية من قرى السودان..!
المعارضة الحقّة هي التي تقف مع الناس لا عليهم، وهي تلك التي ترفع صوتها بصدق لا ببهتان، وتدفع ثمن موقفها من جلدها لا من بطون الفقراء. أما “معارضة المعارضة” فهي تكون واجبة حين يتحول المعارض إلى صورة مقلوبة من الحاكم الذي يعترض عليه “يكرس للكراهية في الداخل، يحرض المجتمع الدولي في الخارج، ولا يهمه إن انهارت جميع سقوف البيوت على رؤوس ساكنيها” ..!
السياسة التي لا تضع قيمة الإنسان في الأولوية ليست سياسة، بل تجارة خسيسة في سوق طلب السلطة. والعدو الأكبر للشعب ليس دائماً الحكومة، بل قد يكون أحياناً معارضة منافقة، قد لا تتورع عن بيع معاناة شعب بأكمله في سوق السياسة!.
munaabuzaid2@gmail.com