
في بيانها الأخير، حملت المجموعة الرباعية المكوّنة من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والمملكة المتحدة، الحركة الإسلامية والتنظيمات المرتبطة بها مسؤولية مآلات الأوضاع في السودان، وذهبت أبعد من ذلك بالحديث عن مساعٍ للعودة إلى الحكم،لكن هذا البيان، الذي يستدعي بطبيعته التوقف والنقاش، لم يكن الأول في رمي الإسلاميين في خانة المسؤولية المطلقة، فقد سبقته مراراً أحاديث المجرم محمد حمدان دقلو (حميدتي) ومستشاريه الذين دأبوا، بجهل فجّ، على ترديد مقولة أن الإسلاميين هم من أشعلوا الحرب وأطلقوا الرصاصة الأولى.
دعونا نسأل هنا، بمنطق بارد وهادئ: أين هم الإسلاميون؟ وهل بالفعل كان لهم دور في هذا المشهد الذي يتقاذفه الجميع اتهاماً وتبرؤاً؟..الإجابة المباشرة تكشف مفارقة لافتة، نعم كان ثمة حضور شبابي إسلامي في معركة الكرامة ضد مليشيا الدعم السريع الإرهابية؛ أكثر من ست كتائب شبابية منتمية للتيار الإسلامي قاتلت، وما تزال تقاتل، من أجل بقاء السودان، لا من أجل استعادة السلطة أو حيازة الجاه ،بعض هذه الكتائب تحوّلت الآن إلى كتائب إسناد مدني، بعد أن أدت دورها العسكري في إحباط مؤامرة مليشيا الدعم السريع،ظهورها لم يكن صناعة تنظيمية، بل كان استجابة وطنية غريزية عقب رصاصة الغدر والخيانة التي أطلقها مشروع الانقلاب الإماراتي عبر أذرعه المليشياوية، في محاولة للاستيلاء على الحكم بالقوة، وهي المحاولة التي انتهت بهزيمة نكراء، سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً.
لكن حين نعود إلى الإسلاميين كتنظيم وقيادة، سرعان ما يتضح الفراغ الكبير، فمنذ سقوط حكمهم وتجريدهم من السلطة في العام 2019، لم يُسمع لهم صوت يعتد به،حتى في فضاءات التواصل الاجتماعي المغلقة ـ مثل مجموعات الواتساب ـ اكتفوا بالفرجة الصامتة، كأن الأمر لا يعنيهم، وإن بحثت فلن تجد إلا كتابات متفرقة لبعض الشجعان من قبيل ،امين حسن عمر ،حسين خوجلي، والهندي عزالدين، وعبدالماجد عبدالحميد، وبابكر يحيى.
أما القيادات البارزة، فبعضها كان في السجون قبيل اندلاع الحرب مثل نافع علي نافع ،أحمد هارون وعوض الجاز ،عبدالرحمن الخضر وغيرهم، وهو ما يفسر جزئياً غياب أصواتهم في تلك اللحظة الحرجة، لكن الغياب لا يُغتفر لأولئك الذين كانوا أحراراً طلقاء، مثل محمد عطا، ياسر يوسف وحامد ممتاز، واللذين لم يعرف لهم منذ سقوط النظام موقف أو كلمة أو حتى مساهمة رمزية في معركة وطنية كبرى، صمتهم لم يعد مجرد عزوف، بل تحول إلى تخلٍّ وجبن سياسي، ترك الساحة نهباً للخصوم والمتربصين.
الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، على سبيل المثال، اتخذ من الدوحة مستقراً صامتاً منذ سقوط الإنقاذ، ولم يظهر إلا مؤخراً في حوار تلفزيوني على قناة الجزيرة لم يحمل سوى ذكريات شخصية بلا موقف، أما حال المؤتمر الوطني نفسه، فلا يحتاج كثير شرح: حزب منقسم بين أحمد هارون وإبراهيم محمود، كلٌّ يزعم الشرعية لنفسه، فيما بقية التيارات الإسلامية التي خرجت من رحمه، مثل “الإصلاح الآن” أو “حركة المستقبل ،منبر السلام العادل )، لا تعرف لها برنامجاً ولا نشاطاً سوى أسماء محفوظة على الورق.
إنها صورة تكاد تختصر المأزق كله: إسلاميون غائبون عن الساحة، جبناء في الرد على خصومهم، منكفئون على صراعات شخصية وضيقة، في وقت يحتاج فيه الوطن إلى خطاب سياسي صلب يواجه تيارات الخيانة والانبطاح التي يمثلها محمد الفكي، وبابكر فيصل، ووجدي صالح، وخالد سلك وإبراهيم الميرغني ومن لف لفهم،هؤلاء يملأون الفضاء اتهاماً وتحريضاً، بينما الإسلاميون يلتزمون صمتاً غير مفهوم، أشبه بالانسحاب الطوعي من التاريخ.
والسؤال يبقى مطروحاً بجدية: إذا كان خصوم الإسلاميين ـ داخلياً وخارجياً ـ يصرون على تحميلهم مسؤولية كل شيء، من الحرب إلى الأزمات المعيشية، فكيف لهم أن يواجهوا هذا السيل من الاتهامات وهم غائبون عن المشهد، لا بيان سياسي، لا منابر إعلامية، ولا حتى مبادرة فكرية واحدة؟
الجواب المؤلم هو أن الإسلاميين اليوم مجرد ظلّ لما كانوا عليه، قوة اجتماعية كامنة لم تستطع أن تتحول إلى فاعل سياسي منظم بعد سقوط الإنقاذ، بينما الشارع السوداني يئن بين مطرقة المليشيا وخيانات الساسة (النص الكم ) وتدخلات الخارج..فأين هم الإسلاميون؟ سؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يفضح فراغ الساحة من قوة كان يمكن أن تكون رقماً صعباً، لكنها فضّلت الغياب.