
“لا أستطيع أن أعفي نفسي من مسؤولية إنهيار الإتحاد السوفيتي” كلمات قوية قالها الرئيس ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للإتحاد السوفيتي خلال الحفل الذي أقيم بمناسبة صدور كتابه “غورباتشوف في الحياة” عام ٢٠١٦م، كانت كلماته إعترافاً صريحاً لم يكن محض صدفة فالرجل كان يعلم تماماً ما يقول لاسيما وأن سياساته كانت سبباً رئيساً في انهيار الإتحاد السوفيتي وتسليم ترسانته العسكرية للغرب وتفككه إلى دويلات.
المزارع الذي بدأ حياته بقيادة آلات الحصاد الضخمة في مزارع الإتحاد السوفيتي الجماعية وهو ما زال في سن المراهقة ترأس أكبر عملية لتقسيم دولة عظمى هيمنت على مساحات شاسعة من آسيا وأوروبا الشرقية لما يقارب ال 70 عاماً.
هذا المزارع الذي إنخرط مبكراً في نشاطات الحزب الشيوعي سرعان ما أصبح نجماً تولى السلطة في العام ١٩٨٥م حينما وجد بلاده تعاني من أزمات إقتصادية مُحدقة، فعكف على انتهاج سياسات إنفتاحية على الغرب عُرفت بال “بيريسترويكا” أو إعادة الهيكلة ولكنها في نظر كثيرين كانت القشة التي قصمت ظهر الإتحاد السوفيتي آنذاك .
إنهيار الإتحاد السوفيتي كان علامة فارقة في تاريخ الشعوب الناطقة باللغة الروسية والشعوب الأخرى فهو لم يكن إنهياراً عادياً بينما جملة من الأحداث الدراماتيكية على مدار سنين فالدول العظمى لا تنهار سريعاً ولكن بالتدريج ،هذه الأحداث تبدو لمن تابعها عن كثب كأنها تروس صغيرة في عجلة كبيرة تم تفكيكها بكل مهارة وترتيب، والميكانيكي الماهر الذي بدأ هذه المهمة هو غورباتشوف بمساعدة بريطانيا وامريكا،وهنا يحضرنا سؤال لأى درجةٍ يمكن لرجل واحد أن يدق مسمار الإنهيار ويمضي في غرسه من أعلى إلى أسفل الدولة؟ ليَدخل العالم بعده عصر القطب الواحد الذي نحاول الخروج منه مُنذ ذلك الحين..!.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية وبعد عقود من حقبة غورباتشوف ومُنذ يناير ٢٠٢٥م تستيقظ النسخة الأمريكية منه كل صباح في واشنطن لتتحف العالم بخطط وقرارات على شاكلة ال “بيريسترويكا” الروسية ، لا سيما وأن خُطط وشعارات منظمة “ماغا” الداعمة لهذه النسخة تحمل نفس المعنى “إعادة أمريكا عظيمة مرة أخرى”، نعم إنه ترامب نسخة غورباتشوف المطورة والتى ذهب البعض إلى أنها النسخة التى ستفكك العجلة الأمريكية الكبيرة ترساً ترساً ومسماراً مسماراً.
كانت رؤية ترامب مُنذ حملته الإنتخابية قائمة على التشكيك في كل شئ حتى الدستور الأمريكي حاول ترامب التشكيك فيه ليتثنى له تغييره لمصالحه الضيقة ، تمثلت خطته في تصويره كمُنقذ امريكا من الانهيار الذي طالها منذ سنين ،ولاشك أن الجميع متفقون بأن أمريكا تعاني من التراجع والإضمحلال ولكن لا يمكن أن يتصور أحد بأن ترامب هو من سينقذها وهذا من سخرية القدر !
فمنذ توليه السلطة مرة أخرى بدأ حرب شعواء على كل مقدسات الشعب الأمريكي ،حارب الحريات وضيق على الصحفيين والقنوات الاخبارية ،هاجم المهاجرين العمود الفقري للإقتصاد الأمريكي وعَمد إلى ترحيلهم مبرراً ذلك بأنه يحفز الاقتصاد ويخفض الميزانية ،أشعل حرباً خاسرة في الشرق الأوسط مع إيران وحشد الأساطيل الحربية لتأجيجها ناهيك عن الهجمات العسكرية المُكلفة التي طالت اليمن ولم تجني لا أمريكا ولا إسرائيل منها شيئًا بل على العكس بلغت تكلفة عمليته العسكرية في اليمن مايقارب المليار دولار في أقل من 3 أسابيع ،فأصبح لا يعرف ماذا يفعل إلى أن هداه عقله لخيار التفاوض مع إيران والذي يُتوقع أن يفشل أو أن يمضي بشروط إيرانية تعيد إدارة ترامب إلى الإتفاق النووي الذي خرج منه في ٢٠١٨م مكايدة في الحزب الديمقراطي.
لم يكتفي ترامب بذلك بل أضرم النار على أكثر القضايا الإقتصادية حساسيةً والتي لطالما تجنبت الحكومات السابقة لعهده الغوص فيها، فقضية الحرب التجارية مع الصين قضية قديمة متجددة لم تجني امريكا ثمارها مُنذ أول زيادات جمركية فُرضتها حكومته الأولى في ٢٠١٨م على الواردات الصينية بغرض خفض الاستيراد من الصين وهو ماقابلته الصين بمضاعفة عائداتها الجمركية من الواردات الأمريكية وكما يقول العرب كأنك “يا زيد ماغزيت” لذلك رجح كثير من الخبراء الاقتصاديين أن إثارة الحرب التجارية مع الصين ذات نفع كبير ليس لأمريكا ولا للصين ولكن للدب الروسي بوتين.
وعلى ذكر بوتين فإن الملفت للنظر في سياسات ترامب آنفة الذكر أنها أبعدت روسيا من دائرة الأعداء مما أثار الشكوك حوله خاصة أن هناك تقارير وتحقيقات من ٢٠١٩م تناولت حقيقة تعاونه مع الإستخبارات الروسية، وظهرت هنا كثير من السيناريوهات التي لا يسعنا ذكرها ولكن يمكن القول أن معظم هذه التقارير لم تبرئ ترامب وإنما هاجمت سياساته الإصلاحية واعتبرتها تصب في مصلحة روسيا وهى بأى حال من الأحوال لن تعيد أمريكا إلى عظمتها مرة أخرى ، فهل سيكون ترامب الرجل الذي قصم ظهر امريكا؟ السنوات القادمة ستكون كفيلة بهذا السؤال.
اللهم_برداً_وسلاماً_على_السودان
مرام البشير “١٥ أبريل ٢٠٢٥م”.