
في الأخبار ما يُقرأ ليُنسى، وما يُقرأ ليُستفز، وما يُقرأ ليُقال إن هذا بلد تُنتهك فيه القوانين كما تفضح السيول هشاشة البنية التحتية؛ تفضح هذه القضية هشاشة الرقابة على المنافذ الجمركية بلا رادع ولا خجل ،الزميل عزمي عبد الرازق لم ينقل مجرد خبر عن أوراق مسربة، بل قدّم شهادة موثّقة على فساد مكتمل الأركان، يتنكر في هيئة توكيلات جمركية، ويغطي وجهه بمستندات أجنبية، ويعبر إلى الأسواق السودانية مطمئنًا إلى غياب الحارس ونوم السلطة.
كشف عزمي – مشكوراً – أن شركة سودانية تُدعى M.S.T Trading CO. LTD تقوم باستيراد وتوزيع أجهزة “هونر” الصينية، وتستفيد من تخفيضات جمركية تصل إلى 30%، ورخص اتصالات، ومزايا لا تُمنح إلا للجهات الوطنية. كل ذلك، دون أن تكون طرفًا مباشراً في أي من التوكيلات الرسمية، لسنا هنا أمام ثغرة إدارية عابرة، بل أمام تحايل ممنهج بمستندات مفبركة، تخدم مصالح شركات أجنبية تتخفّى خلف واجهة سودانية ،تسلسل الوثائق يكشف مسرحية بثلاثة فصول ،من دبي إلى هونغ كونغ،من شركة إلى شركة،ومن ورقة إلى خصم جمركي.
والمثير للدهشة، بل للألم ، أن اسم الشركة السودانية لا يظهر في أي من التفويضات، ومع ذلك تُعامل كوكيل معتمد، وتُفتح لها بوابات الجمارك، وتُمنح التسهيلات، بينما لا يعرف عنها فرع “هونر” في الشرق الأوسط شيئًا..في دولة تحترم سيادتها، مثل هذا الملف يستدعي اجتماعا ً عاجلًا في مجلس الوزراء. أما عندنا، فتمر الوقائع كما تمر الحافلات أمام بوابة مكسورة بلا حارس، من منح هذه الشركة الخصومات؟ من تجاهل الفجوة الزمنية التي استُوردت فيها الأجهزة دون غطاء قانوني؟ ومن سمح بتحويل رخصة الاستيراد إلى حق مكتسب بالتزوير؟
مأساة هذه البلاد – التي تُصارع ويلات الحرب – ليست فقط في تراجع الاقتصاد، بل في أن المال العام صار غنيمة سهلة، وأن المستند المزوّر أصبح مفتاحًا لعبور الأجهزة إلى السوق، لا بتوقيع “هونر”، بل بتواطؤ من يملكون القرار. أن تُمنح صلاحيات مكافحة التقليد لشركة أجنبية غير مفوضة، فهذه ليست ثغرة قانونية، بل تعدٍ صريح على صلاحيات الدولة،ثم إن المستندات لا تحمل توقيعات رسمية، والتواريخ تتداخل على نحو يفتح باباً واسعًا لاستيراد غير شرعي. نحن أمام ملف لا يحتاج لجنة تقصٍ، بل إرادة سياسية تضرب بيد القانون على كل من تستر، ومرر، واستفاد.
الزميل عزمي دعا في مقاله إلى تدخل عاجل من رئيس الوزراء ووزير الداخلية والهيئات الرقابية، وأنا أضم صوتي إليه. لأن ما نواجهه هنا ليس مجرد خلل جمركي، بل اعتداء على كرامة وطن يُنهب تحت غطاء استثمار وهمي، القضية ليست “هونر”، ولا حتى “سامسونج”، بل أن الشركات الوطنية تُذبح لصالح شركات ورقية تتلقى التسهيلات وتفلت من المساءلة، بينما تُخدع الدولة وهي تبتسم.
التهاون في هذه القضية يرسل رسالة واضحة لكل فاسد داخل البلاد وخارجها: “اكذب كما تشاء، فالسوق مفتوح، والرقابة نائمة، والقانون بلا أنياب”،وإذا كانت هذه الحكومة جادة في حماية ما تبقى من هيبة الدولة، فلتبدأ من هنا. من هذا الملف ،من هذا التزوير العلني، فبعض الفضائح ليست مجرد أخبار تُنشر، بل جروح مفتوحة في جسد وطن منهك، لن تُشفى إلا بالعدالة.