
تحتفل القوات المسلحة السودانية هذا العام بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها، وبالذكرى الحادية والسبعين لسودنة القيادة العامة، وهي محطات فارقة في تاريخ المؤسسة العسكرية التي وُلدت من رحم النضال، وارتبط اسمها بالبطولات والتضحيات من أجل الوطن.
منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي، خاض الجيش معارك الشرف دفاعًا عن أرض السودان، وحمى حدوده، ووقف سدًا منيعًا أمام كل من حاول المساس بسيادته، مسجّلًا صفحات مشرقة في تاريخ المنطقة.
كانت البدايات الأولى للجيش السوداني مع قوة دفاع السودان التي أنشأها الاستعمار البريطاني عام 1925، ثم تطورت لتصبح نواة القوات المسلحة الوطنية. وفي عام 1954، تحقق إنجاز تاريخي بسودنة القيادة العامة، ليتولى السودانيون قيادة جيشهم لأول مرة، معلنين عهدًا جديدًا من الاستقلال العسكري والقرار الوطني.
ومنذ ذلك التاريخ، ظل الجيش السوداني رمزًا للوحدة الوطنية، وحاميًا للسيادة في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
لم يكن الاحتفال بالمئوية هذا العام احتفالًا تقليديًا؛ فالقوات المسلحة تخوض منذ ثلاثة أعوام واحدة من أصعب المعارك في تاريخها الحديث، ضد مليشيا متمردة مدعومة من قوى خارجية سخّرت المال والسلاح والمعلومات لتفتيت الدولة السودانية وإضعاف جيشها.
ورغم اختلال ميزان القوة في بعض المراحل، واصلت القوات المسلحة القتال بثبات، مستندة إلى إرث طويل من الصبر والمناورة، مدعومة بإرادة شعبية صلبة ومقاومة مدنية في المدن والقرى، حتى تحولت معركتها إلى رمز للصمود الوطني.
في خطابه بهذه المناسبة، قال رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان:
“نحن نفخر بأننا ننتمي لهذه المؤسسة، والشعب السوداني يفخر بعراقة ورسوخ مؤسسته… وجددنا العزم على المضي في معركة الكرامة ودحر التمرد وعدم المهادنة والمصالحة مهما كانت التكلفة… لن نخون دماء شعبنا وأبنائنا وإخواننا الذين مضوا وقدموا أنفسهم دفاعًا عن السودان.”
هذه الكلمات، التي امتزجت فيها العاطفة بالصرامة، لا تمثل مجرد خطاب رسمي، بل هي عهد موثق أمام الشعب، بأن دماء الشهداء لن تضيع، وأن المعركة ليست معركة جيش فحسب، بل معركة وطن بأكمله. وفي خلفيتها يقف تاريخ طويل من التضحيات، يربط بين أبطال الأمس وجنود اليوم، في سلسلة لا تنكسر من الوفاء للأرض والإنسان.
لا يخفى على أحد أن هذه الحرب تجاوزت كونها مواجهة داخلية، لتصبح ساحة صراع إقليمي ودولي. فعدد من الدول رعت المليشيا المتمردة، وقدّمت لها الإسناد العسكري واللوجستي، وأمّنت لها الغطاء السياسي والإعلامي، في محاولة لإعادة تشكيل السودان بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
لكن الجيش السوداني، الذي خبر تقلبات السياسة الدولية، تعامل مع هذه التحديات بمزيج من الحذر والصلابة، متكئًا على دعم شعبي واسع يرى في بقاء القوات المسلحة ضمانة لوجود الدولة نفسها.
خطاب البرهان من “أرض الحضارات والبطولات والتضحيات” جسّد الرابط بين الماضي المجيد والحاضر الصامد، وأكد أن السودان لن ينكسر، وأن المؤسسة العسكرية قادرة على استعادة البلاد من براثن الفوضى، مهما طال أمد المعركة أو اشتدت المؤامرات.
مئوية الجيش السوداني ليست مجرد رقم في سجل التاريخ، بل هي شهادة على قرن من الفداء، وسبعون عامًا من القرار الوطني المستقل، وثلاث سنوات من الصمود في وجه حرب شاملة.
هي مناسبة لتجديد العهد بين الجيش وشعبه، وللتأكيد أن السودان، رغم جراحه، لا يزال يملك من الإرادة ما يكفي ليصنع مستقبلًا يليق بتضحيات أبنائه.