
*”هذه الحرب لم تقتلنا لكنها أجبرتنا أن نعود إلى الحياة بوجوه غير وجوهنا وأدوار غير أدوارنا”.. الكاتبة..!*
لطالما كانت الحروب امتحانات كبرى للمدن والأفكار والأخلاق والرجال، لكن هذه الحرب – حربنا نحن – تبدو في بعض ملامحها أحياناً وكأنها قد صُمِّمت خصيصاً لاختبار وعي النساء..!
هذه الحرب التي جعلت من الرجل المعيل جملة من الماضي، ومن الست المربّية نموذجاً منقرضاً، أعادت توزيع أوراق النوع الاجتماعي بلا رحمة. فمعظم النساء – من النازحات في كسلا إلى اللاجئات في القاهرة – أصبحن معيلات، وممرضات، وراعيات، بل ورجالاً بلا شوارب عند الضرورة..!
تغيرت الخارطة الأخلاقية للعلاقات الأسرية، وسقطت هرمية القوامة تحت أنقاض البيوت المنهوبة، وظهر شكل جديد من أشكال التماسك الأنثوي، المرن، العنيد. فالرجل – حين تهزمه الحرب – غالباً ما ينزوي في ركن العجز أو الغضب. أما المرأة فهي في الغالب قد ترتدي ثوب الجلد وتخرج لتبحث عن خبز، ثم عن عمل، ثم عن وطن صغير في بيت نزوح أو لجوء..!
الرجال الذين اعتادوا أن يكونوا “العمود” انكسر بعضهم – ليس لضعف فيهم – بل لأن الخيمة ذاتها قد اقتُلعت من الأرض، فاضطرت معظم النساء لأن يكنّ الأعمدة والخيام والظل..!
في مراكز الإيواء، وفي شقق الإيجار المُضاعف، تقبع نساء يصنعن المستحيل. إحداهن تدير روضة أطفال داخل مطبخ، وأخرى تبيع طعمية في سوق لا تعرفه، وثالثة تتوسط لتسكين عائلة جديدة فرت من جحيم الحرب..!
معاناة الناس في ظل هذه الحرب غيرت قواعد النوع الاجتماعي، بلا محاضرات ولا ورش عمل. النساء أصبحن المعيلات، ليس لأن الرجال يريدون، وليس لأنهن يرغبن، بل لأن الظروف أرغمتهن على توقيع عقد جديد مع هذا التغيير الذي عصف بثابت الدور الاجتماعي..!
لقد كانت هذه الحرب امتحاناً أخلاقياً للعلاقات الأسرية. البعض رسب في الصدمة الأولى، وتَخلى، والبعض أعاد تعريف معنى القرب والدعم والمسؤولية. في معظم الأسر اللاجئة سقطت قوامة الرجل في شأن الإعالة وأصبحت المرأة هي المعيلة والمُخططة والمُدافعة عن حق العائلة في البقاء. وكل من يقول إن دور النوع ثابت نحيله إلى أفاعيل هذه الحرب التي أنهت المسافة العاطفية بين الأدوار..!
في هذه الحرب لم تعد الزوجة الشاطرة هي التي تُتقن طهو الكمونية وعواسة الكسرة، بل التي تحفظ أطفالها من الجوع. ولم تعد الزوجة المثالية هي التي تطيع زوجها في المنشط والمكره، بل التي تبتلع دموعها وتنتفض لإنقاذ أبناءها من العوز..!
لقد أثبتت هذه الحرب أن النظام الأبوي كان واهناً أكثر مما كنا نعتقد،مجرد رفاهية ثقافية وحذلقة اجتماعية، أما اليوم فمن تُنقذ الأسرة وتُمسك بخيوط الحياة – وتفكر في الأقساط والمصاريف والمدارس وتنجح في التدبير – هي من كانت في يوم ما “مجرد ست بيت..!
إنها ليست قصة بطولات، لا أحد يريد البطولة في مثل هذه الحرب، بل هي حكاية صمود وكيمياء جديدة للعلاقات. فالحرب لا تقتل وتدمر فقط، بل تعيد ترتيب الأدوار، وتعيد تعريف المسؤولية. ومن بين الدمار تقف المرأة شاهدة على انهيار كل ما كان المجتمع يظنه ثوابت..!
فهل ننجو – والحال كذلك – من هذه الحرب، أم تُغيّرنا إلى الأبد!.
munaabuzaid2@gmail.com