مقال

هناك فرق _ منى أبوزيد تكتب : الحضور في اللحظة

.

*”أحاول أن أحضر في غيابك يا أمي فلا أجدني. الحضور في اللحظة غير محتمل بعد رحيلك”.. الكاتبة..!*

منذ رحيل أمي، أصبحت اللحظة شيئاً ثقيلًا، صارت الساعات كأنها غرف مغلقة لا هواء فيها، ما عدتُ أقدر على الارتماء في حضنها، وما عدت أقدر على الجلوس في حضن الوقت..!

في أواخر أيامها كان الزمن معها مليئاً بالمهمات الصغيرة المقدسة، والضحكات القصيرة المنتزعة من مواعيد الأدوية، وتقلبات الأعراض، وانعطافات الطمأنينة بعد نوبات القلق، وابتسامات الأمل بعد نوبات الألم ..!

الآن، كل شيء في غيابها يسير كما لو أنني أحيا على حافة مشهدٍ لا يكتمل. الناس تمشي، والكلام يُقال، والحياة تمضي. وأنا هنا، عالقة ومعلقة، مازلت أنتظر أن تناديني كعادتها “يا مَنُّو”، فأهرع إليها ..!

أسافر بأفكاري نحو مقعدي بجوار سريرها في جلسات غسيل الكلى. كيف كنت أطعمها وأسقيها كأنها ابنتي، ثم لا ألبث أن أستشعر ضعفي أمام قوتها فأبثها بعض مخاوفي وأطلب نصحها، فتدهشني بفطنتها وحكمتها، وأدلك راحتي قدميها بأطراف أصابعي فتسعدني بأجمل دعواتها “تشيلك عافيتك”، “يديك الفي مرادك”..!

واحد وعشرون يوماً من الغياب، وما زلت أهرب من كتابة الجملة الأولى، كأن في الاعتراف بموتها موتاً آخر. كانت ابنتي وصديقتي ومرآتي، كانت أول قارئة، وأشد ناقدة، وأحن مُدققة. من سيضع خطوطاً بالقلم الأحمر تحت زلاتي، من سيخبرني أن كل شيء سوف يمضي بخير في أحلك ساعاتي، من سيقرأ ما أكتبه أولاً، من سيصدقني دوماً كما كانت، بلا أدنى شك وبلا حسابات أو شروط..؟

كيف أعود إلى عالم انقطعت عنه لسنواتٍ من أجلها، وسعدت بعزلتي فيه، وكأنها سنوات مستعارة من فردوس صغير كنت أعيش فيه مع أمي فقط. فكيف أعود اليوم منه يتيمة القلب فارغة اليدين..؟

يقولون إن الزمن كفيل بكل شيء، لكن ماذا يفعل الزمن مع من كانت هي الزمن؟. من كانت ساعتي البيولوجية، وجدولي اليومي، وبوصلتي التي لا تشير إلا نحو النجاة، من كانت النظام في فوضاي، والسكينة في طباعي، والعذر الوحيد الذي أستند إليه حين أتأخر عن الحياة..؟

لطالما خفت من لحظة الموت تلك، من هذا الحضور المفاجئ للعالم في غيابها، أن أكون هنا، الآن، والكل حولي، ولا تكون هي. أن أُجبر على التعامل مع لحظة الزمن الراهن، والأرض تكاد أن تميد، والسماء تنقصها دعوات أمي..!

لستُ مستعدة لرثائها، ولست قادرة على غير الامتنان. أشكر كل من واساني، كل من لمس قلبي بكلمة، كل من دعا لها أو دمعت عينه من أجلي. وأرجو من كل من يقرأ الآن أن يدعو لأمي..!

اللهم افسح لها في قبرها مد البصر واعف عنها واغفر لها وارحمها وأسكنها في جنات النعيم، وارفع مقامها في عليين!.

munaabuzaid2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *