المقالات

من أنقاض الحرب إلى آفاق الأزدهار .. نحو شراكة استراتيجية للإعمار والاستثمار في السودان بقلم : د. بهاء الدين مكاوي

لم تكن الحرب التي اندلعت في السودان نزاعاً مسلحاً عابراً، بل كانت زلزالاً مدمراً ضرب مفاصل الدولة، وترك آثاراً كارثية على البنية التحتية الحيوية التي تمثل عصب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لقد طال الدمار شبكات المياه والكهرباء، فخرجت العديد من محطات التوليد والتوزيع عن الخدمة نتيجة للعمليات العسكرية أو بسبب الإهمال الذي فرضته ظروف الحرب. كما تم تدمير العديد من الجسور والطرق القومية والمطارات، ما أعاق حركة التجارة والإمدادات الإنسانية. كذلك، خرجت مئات المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة بسبب القصف أو النهب أو انعدام الإمدادات الطبية، فضلاً عما أصاب المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات فأغلقت أبوابها وتحول كصير منها إلى ملاجئ للنازحين.
هذا الدمار الواسع لا يمكن معالجته بالطرق التقليدية مثل المنح والمساعدات وحدها، بل يتطلب مقاربة جديدة تقوم على شراكات استراتيجية شاملة بين السودان والأطراف الأخرى، بحيث يتم الجمع بين الدعم الإنساني العاجل والاستثمار الاقتصادي طويل الأجل. في هذا الصدد نقترح معادلة واضحة تقوم على مبدأ مساهمة في إعادة إعمار البنية التحتية مقابل فرص استثمارية حصرية أو تفضيلية في القطاعات الإنتاجية الكبرى، كقطاعي الزراعة والتعدين.
يمتلك السودان، رغم الدمار الذي خلفته الحرب، موارد استراتيجية نادرة: ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية الخصبة، وموارد مائية وفيرة، واحتياطات ضخمة من الذهب والمعادن الحيوية التي تتسابق الدول الإقليمية والعالمية للاستحواذ عليها، كما يمتلك السودان أكثر من 50 مليون فدان من الغابات، وأكثر من مائة مليون رأس من الماشية، وأكثر من مائة وعشرين ألف طن من الثروة السمكية سنوياً. ولذلك، ينبغي للقادة السودانيين ألا يأتوا إلى موائد التفاوض كالمتسولين، فهم يمتلكون مصادر قوة وإمكانات اقتصادية وبشرية هائلة.
يجب على المفاوضين والمسؤولين السودانيين أن يتعاملوا مع عملية إعادة الإعمار باعتبارها مشروعاً استثمارياً وتنموياً متكاملاً، يحقق استقرار السودان ونموه الاقتصادي، ويمنح الدول والشركات المشاركة عوائد اقتصادية مضمونة، مع ضرورة الحفاظ على السيادة الوطنية ورفض أي شروط تفرض إرادة خارجية على قرارات البلاد.
يمتلك السودان مقومات تفاوضية نادرة تتيح له فرصة للمساومة القوية والناجحة، بدءاً من الأراضي الزراعية الخصبة المنتشرة في معظم مناطقه، مروراً بالموارد المائية الوفيرة، وصولاً إلى الاحتياطيات الضخمة من المعادن النادرة مثل الذهب، والكروم، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، وغيرها. هذه الثروات الطبيعية والإمكانات الكبيرة تشكل محركات رئيسة للنمو الاقتصادي إذا ما أُحسن استثمارها بطريقة استراتيجية، وكما قيل “من يملك المفتاح، يفتح الأبواب.”
انطلاقاً من ذلك، يمكن للسودان بناء معادلة استراتيجية واضحة المعالم تقوم على مبدأ “الإعمار مقابل الاستثمار الإنتاجي”. فبدلاً من الاعتماد على المعونات الإنسانية فقط، يمكن إبرام عقود مع المستثمرين الراغبين في المساهمة في إعادة الإعمار، بحيث يُمنحون أولوية تفضيلية في عقود استثمار طويلة الأجل في القطاعين الزراعي والتعديني. هذه الخطوة من شأنها أن تحقق منافع متبادلة للسودان وللشركاء الدوليين والاقليميين، والعقل الواعي هو الذي يعرف كيف يربط بين ما يملك وما يريد.
بهذا التصور، لا يكون السودان مجرد دولة تطلب العون وتستجدي المساعدات، بل شريك استراتيجي يملك أصولاً حيوية يحتاجها العالم، خاصة في ظل الأزمات المستمرة التي تعصف بالأمن الغذائي العالمي، فالسودان يُعد من أكبر مخازن الغذاء على مستوى العالم، إضافة إلى كونه مستودعاً للمعادن التي يتزايد الطلب عليها عالمياً.
بناء على ما سبق، يمكن لحكومة السودان أن تتبني نموذجاً مبتكراً يقوم على ربط مشاريع إعادة الإعمار بالاستثمار في الثروات المعدنية. وفق هذا النموذج، يتم طرح مشاريع استراتيجية لإعادة بناء الطرق والجسور وشبكات الكهرباء والمستشفيات، على أن تُموَّل من خلال شراكات مع شركات تعدين. تمنح هذه الشركات فرصاً للاستثمار في مواقع تعدين واعدة، مقابل التزامها بتخصيص جزء من أرباحها أو إنتاجها لصالح تمويل مشروعات الإعمار. وضمن هذا الإطار، يمكن مثلاً أن تُكلف إحدى الشركات بتمويل وإعادة بناء جسر حيوي، مقابل حصولها على حق تشغيل منجم ذهب لمدة عشر سنوات، أو بناء مطار مقابل تشغيل منجم لمدة 20 عاماً، وذلك وفق اتفاقية تضمن للسودان حصة عادلة من العائدات.
يجب عدم النظر إلى عملية الإعمار في السودان على أنها ” واجب إنساني” تقوم به دولة تجاه دولة أخرى دمرتها الحرب، بل يجب التعاطي معها على أنها، بالفعل، فرصة استثمارية استراتيجية للبناء والتطوير وتحقيق التنمية المستدامة للسودان، وتحقق، في نفس الوقت، عوائد اقتصادية ضخمة للمستثمرين في القطاعات الزراعية والتعدينية على مدى عقود طويل؛ ومن خلال التخطيط المدروس، والرؤية الاستراتيجية، والتعاون الدولي والاقليمي القائم على المصالح المشتركة، وبهذا المنظور يستطيع السودان أن يتحول من دولة منكوبة إلى دولة تنموية واعدة، تجذب الاستثمارات من مختلف أنحاء العالم، وتؤسس لشراكة استراتيجية مستدامة تجمع بين الإعمار والاستثمار، وتستفيد منها الأطراف المختلفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *