
*”القلبُ غِمدُ الذكريات، من الذي أفضَى لسيفٍ في الضلوع وسَلَّه”.. الشاعر أحمد بخيت..!
لا يعود الأسير من محبسه فقط بل من نفسه أيضاً، فالذين تم اختطافهم على حين غرة، والتنكيل بهم الشهور تلو الشهور لا يَرجعون بذات الهيئة التي غادروا بها، بل يعودون أشبه بالناجين من الحطام..!
لا يبحث الأسرى المحررون عن ضوء، بل عن ظلٍّ آمن، عن مكان لا يُسأل فيه الجريح “ما بك”، بل يُعانق فيه بصمتٍ طويل، واستعداد أطول المراعاة والتفهم..!
الناس تحب النهايات السعيدة في حكايات التحرير، صور العناق، الزغاريد، والدموع التي تبرر نفسها بنفسها، لكن ما لا تراه العيون ولا يظهر أمام العدسات هو ما يقتل، فجروح الأسر لا تمحى بخبر عاجل، ولا تغسل التهليل والترحاب، هي ندبةٌ على الروح، لا تُرى، لكنها تلسع كلما تحدث الآخرون بصوتٍ عالٍ، أو نظروا طويلاً، أو صمتوا بطريقةٍ خاطئة..!
في ثقافتنا، لا أحد يعرف كيف يحتضن الأسى، نحن نحسن الفرح ونرتب له الولائم، لكننا لا نُتقن الصمت الحنون ولا الانتظار الطويل. نُلاحق العائدين بأسئلتنا الفضولية، نظنّ أن الحديث يحرّرهم، بينما هو في الحقيقة يُعيدهم إلى هناك، إلى المعتقلات، إلى التحقيقات، إلى الجدران التي احتضنت عويلهم..!
ولأننا لا نحب ما نجهله، نبدأ في نبذ من لا نفهمه، كما لو أن الخروج من الأسر كان عودة من عطلة، وكأن المرء لا يحتاج – بعد كل ما شاهده وشهد عليه – إلى خارطة طريق لكي يعود إلى نفسه، بل فقط إلى التكبير والزغاريد مع كرم الضيافة..!
ثمّة لحظة فارقة في حياة الأسير بعد تحرّره، إما أن يجيد من حوله التعامل معه، أو يسقط في هوّة الانفصال التام. وليس المطلوب بطبيعة الحال علاجاً نفسياً معقّداً، بل شيئاً بسيطاً وعميقاً، أن نمنحه الوقت، أن نصدّق روايته، أن نسمح له بالصمت. أن نقبل أنه لا يشبهنا الآن، لكنه ل يرفضنا، هو فقط خاض ما قد لا نقوى نحن على احتماله..!
الأهل، حين لا يعرفون كيف يتعاملون، قد يصيرون سجّاناً جديداً. بنواياهم الطيبة، يضغطون، يحققون، يتوقعون أن يعود عزيزهم كما كان، لكنه لن يعود كما كان بسهولة، هو الآن – رجلاً كان أو امرأة – شخص خارج من سجنين، سجن العدو، وسجن الصدمة..!
هؤلاء الأسرى المحررين ليسوا أبطالاً سينمائيين، بل بشر ذابت أجزاء منهم في الخوف والجوع والإهانة، فلا تسألهم عن البطولة. من لا يُمنح فرصةً ثانية بعد نجاته، سيظل طريداً لماضيه، ومن لا يجد من يصدّق ألمه سيخترع لنفسه عالماً يعيش فيه وحيداً، بعيداً عنّا، حتى لو كان معنا كل يوم..!
ربما يكون تحرير الأسير هو مسؤولية القوات المسلحة، لكن إعادة الحياة إليه هي مهمة المجتمع من حوله،فما من أحد يعود من الجحيم كما كان قبل دخوله، لذا فهو يستحق فرصة جديدة للحياة بين أناسٍ لا يُشبهونه في طبيعة المعاناة وقسوة التجربة لكنهم يُشبهونه في النظرات والعبرات والخلجات والممسكات الإنسانية..!
munaabuzaid2@gmail.com