المقالات

شسء للوطن م.صلاح غريبة يكتب: أزمة خريجي الإعلام والسياحة في السودان: واقع مرير وحلول غير تقليدية

Ghariba2013@gmail.com

يعاني السودان اليوم من أزمة حقيقية تتجاوز بكثير مجرد التحديات الاقتصادية والسياسية. إنها أزمة تتجسد في واقع مؤلم يعيشه آلاف الشباب من خريجي كليات الإعلام والسياحة، الذين يجدون أنفسهم أمام أبواب موصدة، وعاجزين عن العمل في مجال تخصصهم الذي أمضوا سنوات في دراسته. هذا الوضع لا يمثل إهدارًا للموارد البشرية فحسب، بل يشكل إحباطًا عميقًا وطاقة كامنة لا تجد طريقًا للتحرر، مما ينعكس سلبًا على التنمية الشاملة للبلاد.
تُخرّج كليات الإعلام في السودان سنويًا أعدادًا كبيرة من الطلاب، يتلقون تعليمًا نظريًا لا يخلو من جوانب القصور في التطبيق العملي. يفتقر القطاع الإعلامي في السودان إلى التطور والتنوع الكافيين لاستيعاب هذا الكم الهائل من الخريجين. فقنوات الإعلام الرسمية محدودة، والإعلام الخاص لا يزال في مهده، ويعاني من ضعف التمويل والرقابة، مما يحد من قدرته على توفير فرص عمل مستدامة ومجدية. يضاف إلى ذلك، الهجرة الكثيفة للكفاءات الإعلامية إلى الخارج بحثًا عن فرص أفضل، مما يزيد من صعوبة إيجاد مكان للخريجين الجدد في هذا القطاع.
أما كليات السياحة، فالوضع لا يقل سوءًا. فالسودان، رغم ما حباه الله من مقومات سياحية طبيعية وتاريخية هائلة، لم يستطع بعد استثمارها بالشكل الأمثل. الصراعات السياسية، ضعف البنية التحتية، ونقص الترويج الفعال، كلها عوامل ساهمت في تدهور القطاع السياحي، وجعلته غير قادر على استيعاب خريجيه. فكيف لخريج سياحة أن يجد عملاً في بلد يعاني من ضعف الإقبال السياحي وغياب الاستثمارات الكبرى في هذا المجال؟ غالبًا ما يجد هؤلاء الخريجون أنفسهم مضطرين للعمل في مجالات لا تمت بصلة لتخصصهم، أو يهاجرون بحثًا عن فرص خارج الوطن.
لمعالجة هذه الأزمة، لا بد من تبني حلول جريئة وغير تقليدية تتجاوز المعالجات التقليدية التي أثبتت عدم فعاليتها. يجب أن نعمل على تمكين هؤلاء الخريجين، ومنحهم الأدوات اللازمة لخلق فرصهم بأنفسهم، بدلًا من انتظار فرص قد لا تأتي، ومنها إنشاء حاضنات أعمال متخصصة: بدلاً من انتظار التوظيف الحكومي أو الخاص، يمكن إنشاء حاضنات أعمال متخصصة لخريجي الإعلام والسياحة. توفر هذه الحاضنات مساحات عمل مشتركة، تدريبًا مكثفًا على ريادة الأعمال، ووصولًا للموارد والشبكات. يمكن لخريجي الإعلام البدء في مشاريع إعلامية رقمية مستقلة (بودكاست، قنوات يوتيوب متخصصة، منصات محتوى إخباري أو ترفيهي)، بينما يمكن لخريجي السياحة تطوير جولات سياحية مبتكرة، أو شركات لإدارة الفعاليات الثقافية، أو حتى شركات متخصصة في السياحة البيئية أو العلاجية. يجب أن تُقدم هذه الحاضنات دعمًا قانونيًا وإداريًا لتسجيل الشركات الصغيرة وتسهيل حصولها على التمويل.
الشراكات مع المنظمات الدولية والمؤسسات التعليمية الخارجية، فيمكن للسودان الاستفادة من خبرات المنظمات الدولية والمؤسسات التعليمية الخارجية في تطوير برامج تدريبية متخصصة تركز على المهارات العملية والتكنولوجيا الحديثة في مجالات الإعلام والسياحة. على سبيل المثال، يمكن لخريجي الإعلام الحصول على دورات في تحليل البيانات الإعلامية، التسويق الرقمي، وإنتاج المحتوى متعدد الوسائط. أما خريجي السياحة، فيمكن تدريبهم على إدارة الفنادق الذكية، التسويق السياحي عبر الإنترنت، وتطوير المنتجات السياحية المستدامة. هذه الشراكات يمكن أن تفتح أبوابًا لفرص عمل في المشاريع المشتركة أو حتى في هذه المنظمات نفسها.
إنشاء صندوق وطني لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يديرها الشباب الخريجون، مع التركيز على مشاريع الإعلام والسياحة. يجب أن يقدم هذا الصندوق قروضًا ميسرة، أو حتى منحًا للمشاريع الواعدة، مع توفير الإرشاد والتوجيه اللازم لضمان استدامتها. يمكن تمويل هذا الصندوق من خلال ميزانية الدولة، أو من خلال الشراكات مع القطاع الخاص والمنظمات المانحة.
لا يمكن للحلول المقترحة أن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت هناك بنية تحتية قوية تدعمها. يجب على الدولة الاستثمار في تطوير البنية التحتية الرقمية، وتوفير الإنترنت عالي السرعة بأسعار معقولة في جميع أنحاء البلاد، لدعم المشاريع الإعلامية الرقمية. كما يجب الاستثمار في تطوير البنية التحتية السياحية، من طرق ومواصلات وفنادق، وتأمين المناطق السياحية، لجذب الاستثمارات وزيادة الإقبال السياحي.
يمكن لخريجي الإعلام والسياحة الاستفادة بشكل كبير من برامج التبادل الطلابي والتدريب العملي في دول أخرى متقدمة في هذه المجالات. هذه البرامج لا تساهم فقط في صقل المهارات واكتساب الخبرات، بل تفتح آفاقًا جديدة للتعاون وخلق فرص عمل عابرة للحدود.
يجب أن يكون هناك وعي مجتمعي بأهمية الإعلام الحر والمسؤول، ودوره في بناء الوعي وتشكيل الرأي العام، وكذلك بأهمية السياحة كقاطرة للتنمية الاقتصادية والثقافية. هذا الوعي يمكن أن يشجع على الاستثمار في هذه القطاعات ويخلق بيئة أكثر ملاءمة وازدهارها.
إن أزمة خريجي الإعلام والسياحة في السودان هي أزمة عميقة تتطلب حلولًا جذرية تتجاوز الطرق التقليدية. يجب أن ننظر إلى هؤلاء الشباب ليس كعبء، بل كطاقة كامنة يمكن أن تدفع عجلة التنمية إذا ما مُنحوا الفرص المناسبة. بالابتكار، ودعم ريادة الأعمال، والاستثمار في البنية التحتية، يمكننا تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لخلق جيل جديد من رواد الأعمال في مجالي الإعلام والسياحة، يساهمون بفاعلية في بناء مستقبل السودان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *