
رصد _ عزة برس
كان قطر كريمة فيسبوكنا (our facebook) الأول
وكان أيضا يسمى ب (قطر المشترك)…..
وهو يختلف عن قطر حلفا واسمه الاكسبريس..
والاكسبريس لا يتوقف الا في المحطات الكبيرة….
أما قطر كريمة، فقد كان كريما ومتواضعا واصلا للارحام….
لا يتجاهل اي محطة على خط السكة حديد منذ ان يتحرك من محطة الخرطوم والى أن يصل الى آخر محطة له….
بل أحيانا يتوقف في بعض السند (جمع سنده) والسندة للناطقين بغيرها عبارة عن منطقة على شريط السكة حديد بين محطتين يتجمع فيها بعض المسافرين من القرى المجاورة الذين لم يتمكنوا من الذهاب الى المحطات المجاورة….
يغشاها القطار لمسافة دقيقة او دقيقتين ليلحق من كان فيها بالقطار..
والناس في السفر بالقطار نوعين….
نوع يهوى السفر في الهواء الطلق والتمتع بمنظر السماء الصافية وهؤلاء هم رواد الصعود الى سطح القطار ومعظمهم من الشباب وهذا عالم آخر قد نكتب عنه في يوم من الايام….
ونوع يتخذ طريقة داخل القطار سَرَبَا الى ان يحط رحالة بواحدة من عرباته…..
وعربات القطار مقسمة الى عدة درجات اعلاها عربات النوم وهذه مقسمة الى قمارات كل قمارة بها ما بين سريرين الى اربعة، على كل جانب سريرين سرير علوي وآخر تحته…..
عربات الدرجة الاولى وهذه مقسمه ايضا الى قمارات ولكن تحتوي على مقاعد وثيرة وليس سراير…
احيانا تكون في القطار عربة تسمى صالون وهذه عادة تكون مخصصة لكبار المسؤولين او اسرهم وتكون محجوزة بالكامل لهم…..
وعربات النوم والدرجة الاولى يكون الركوب فيها بالحجز المسبق وتجد الاسماء مكتوبة على الابواب…..
يفصل بين عربات النوم والدرجة الاولى عربة الاسطناطور (هكذا تنطق) وهي مأخوذة من الكلمة الفرنسية (restaurateur) رستوراتيور وتعني صاحب المطعم…..
وكثيرون لهم قصص مع الاسطناطور لا يتسع المجال لذكرها…..
عربات الدرجة التانيه والتالته وهي كلها اقل فخامة من سابقاتها، حتى نصل الى الدرجة الرابعة والتي تحتوي على كنب من الخشب وارفف من الخشب والجلوس فيها يعتمد على السبق او قوة العضلات او أن يتفضل عليك السابقون السابقون من ركاب المحطات السابقة أو قليل من الآخرين ممن وجدوا سانحة وحجزوا مساحة….
ومن خبراتنا القديمة في السفر بالقطار ونحن من رواد الدرجة الرابعة وهي للاسف من الخبرات التي يفتقدها شباب الاجيال الجديدة….
وهي أننا تعلمنا انه الزول لما يدخل في نص عربة القطار عليه ان يكون من الذين يكظمون الغيظ العافيين عن الناس لانه عادة يكون هنالك هرج مرج صاخب واثناء هذا الهرج والمرج قد تتعرض
لضربه من ركن شنطة صفيح مرة
أو كفته من هاندباق مرة أخرى
وقد يحك أحدهم كتفك بي جركانة زيت قديمة تترك اثرا بيننا من الزيت والتراب في قميصك الذي ظللت تجهز فيه يومين لأجل هذه السفرة…
ناهيك عن أن تمسك سلكاية بستلة أو يد جردل في جيب بنطلونك ولا تسمع الا مززززز لتنظر فترى ان البنطلون قد اتشرط ….
أما لو كان أحدهم قد وطئ برجله علي شبشبك وجاء آخر من النوع المتعافي داك ودفرك فتأكد، أنك انت وفردة شبشبك قد افترقتما فراق الطريفي لي جملو…
وتظل العربة درجة رابعة تغلي والناس يشتم بعضهم بعضا ويزجر بعضهم بعضا ويغادرها بعضهم ويأتي اليها آخرون مزجورون من العربات الاخرى……
وكانت عربة القطار عبارة عن سودان مصغر قد تجد فيها اناس من جهات السودان الاربعة اناثا وذكرانا شيبا وشبابا لا فاصل بينهم….
وما ان يتحرك القطار حتى تبدأ الحالة تهدأ وكل زول ياخد المكان المتاح له سواء على الكنبات أو على الارض بين الكنبات أو في الممشى وان كنت صغير الحجم خفيف الحركة يمكن ان تجد لك مكان في الارفف العلوية بين العفش، او في المزيرة بين الزيرين…..
ثم بعد قليل تبدأ الونسات وتجاذب الاحاديث ثم يبدأ الناس في التعارف انتو من وين ؟ نحن من حلة كدا…..
يا سلااام عندنا جنبكم ناس فلان بي تعرفوهم ؟
ايوا كيف مابنعرفهم موش الابوهم كان وكان والا حبوبتهم كانت وكانت ؟
بس اياهم ذاااتهم اها ديل امهم وحبوبتنا ام ابونا بنات خالات لزم ….
وهكذا يجد كل اعداء الهجوم الكاسح الذي حدث قبل قليل أنفسهم قد أصبحوا أهل ومعارف ….
واحيانا تسمع من يقول لك بس الحمدلله لقيناكم، الناس ديل عندهم عمتهم معانا في القطر دا ركبناها في العربية التانية ديك بعد شوية بي نمشي نجيبها بس تسوقوها معاكم توصلوها ليهم…..
ريحتونا الله يريحكم….
وقد تنشأ بين الناس عشرة ملح وملاح ساعة اخراج الزوادة وتبدأ كل مجموعة المشاركة في الطعام، والسودانيون قبل عهد الانقاذ يقدسون عشرة الملح والملاح وبعضهم يسميها عيش وملح ولا يخونونها مهما اقتضى الأمر….
ثم تأتي برهة من الزمن تنخفض في الاصوات ويسود فيها الصمت ولا تسمع الا صوت عجلات القطار تنكجك تنكجك… تنكجك تنكجك….تنكجك تنكجك….
وأول ما تندمج مع رتابة الصوت وتبدأ في تأليف كلمات تترجم هذا الصوت، يأتيك صوت بتاع الشاي وهو يدلف الى داخل العربة ويردد اهزوجته التي يحفظها كل مرتادي السفر بالقطار ويرددونها معه
ها جميل وتقيل
والاسطى قدير
والكبابي علم التحرير
والشاي احمر تقول حرير
يطير النعاس
يودر وجع الراس
يسطل العروق
يخلي الدم يروق
الى آخر الاهزوجة وهي طويلة….
ويتسابق الناس كل منهم يحلف يريد يدفع وقد يدفع احدهم لعشرة او خمسة عشر شخصا وهو لا يعرف منهم ولا واحد غير فقط انهم تواجدوا داخل هذه العربة مع بعض….
وتنمو صداقات قد تستمر وتتمدد حتى تصل حد تزاور وتعارف بعض الاسر….
واحيانا تنشأ قصص حب وسط هذه الزحمة، وبعضها يتوج بالزواج…..
وقد تظهر بعض المواهب فقد يكون في العربة فنان يحمل عوده او طنبوره يحول العربة الى حفلة….
واحيانا يكون فيها شاب مقرئ يقلد الشيخ صديق احمد حمدون فيضفي على العربة جو روحي تذوب فيه الوجدان….
وتجد احيانا ظرفاء يتبادلون النكات او يتجادعون بالدوبيت…..
كانت هذه طريقة السفر من الولايات الى الخرطوم او الى غيرها من المدن الكبرى….
وما حكيناه عن قطر كريمة تجده في قطار سنار وفي قطار بابنوسة وفي قطار نيالا وفي قطار بورتسودان….
كانت هذه الاندياحة محاولة للاجابة على سؤال من أحد الابناء سألني انا كان زمان عندنا وسائل تواصل اجتماعي وفيسبوك…..
نعم كان القطار هو وسيلة التواصل الاجتماعي والفيسبوك بتاعنا زمان…
بل كان أجمل وانبل منها ومن الفيسبوك لأن فيه لقيا مباشرة (phisical contact ) وفيه كما قلنا ملح وملاح….
،، ،
كانت أيام …
من صفحة برلمان الشمالية