
في كلِّ مرَّةٍ نقرأ تقارير وزارةِ الصِّحَّة أو مركز الطوارئ الاتحادي، نشعر وكأنَّنا أمام مرآةٍ مقلوبة: الأرقام تقول شيئاً، والواقع على الأرض يقول ما هو أفظع بكثير، الخرطومُ اليوم ليست فقط عاصمةَ بلدٍ منهكٍ بالحرب، بل هي بؤرةُ أوبئةٍ تتَّسع دوائرُها كلَّ يوم، المَلاريا وحُمَّى الضَّنَك وبحسب بيانات اللجان ونداءات غرف الطوارئ، لم تعد إصاباتهما حالات متفرقة بل انتشرت في أحياء كاملة،والأرقامُ الرسمية تتحدَّث عن أكثرَ من (1,378) إصابةً بحُمَّى الضنك في خمس ولايات، فيما بلغت إصاباتُ الكوليرا (1,501) حالةً في (13) ولاية،أمَّا الحَصْبَة والكَبِدُ الوِبَائِيُّ فهما يُضيفان طبقةً أخرى إلى المشهد المأزوم.
ولكن الأرقام وحدها لا تكفي لوصف الصورة،ففي الحارة الثامنة بأم درمان أصدرت لجانُ المقاومة بياناً اتَّهمت فيه وزارةَ الصحَّة الولائية بالتقاعس والفساد، محمِّلةً الوزير مسؤوليَّة تفشِّي الأوبئة، وقالت بوضوح إنَّ حياةَ السودانيين أصبحت “رَهِينَةً في يدِ ضِعافِ النفوس من التُّجَّار والسماسرة”، أمَّا في بحري، فقد أطلقت غرفةُ الطوارئ نداءً عاجلًا، ووصفت الأوضاعَ الصحيَّة بأنَّها بلغت مرحلةً “خطيرة”، البيان لم يكن بلغةِ أرقام، بل بلغةِ معاناة: أُسَرٌ كثيرة لم تَعُد قادرةً حتَّى على شراء “البندول”، بينما الحاجة تتزايد إلى الأدوية الخاصَّة بالمَلاريا وحُمَّى الضنك، إلى جانب الناموسيات والمحاليل الوريدية.
الخرطومُ في المقدِّمة، ولكنَّها ليست وحدها،الجزيرة، كَسْلا، شمال دارفور، جنوب كردفان، والنيل الأزرق، كلُّها أسماءُ ولاياتٍ تتردَّد في تقارير الوباء، لكنَّها في الحقيقة أسماءٌ لمواطنين يتساقطون بين عجز الدولة وغلاء الدواء،الأرقامُ الرسمية جافَّة، لكنَّها تحمل وراءها قصصَ آلاف الأسر التي تُركت لمواجهة المرض بمواردَ لا تكفي للخبز، فضلًا عن الدواء.
هنا يطلُّ السُّؤال الكبير: ما المطلوب من وزير الصِّحَّة الاتحادي، الدكتور هَيْثَم محمد إبراهيم؟ لقد عاد إلى مقعد الوزارة في حكومة “الأمل”، لكنَّ الأمل وحده لا يكفي، كان الوزير قد نال إشاداتٍ واسعة في فترةٍ سابقة، لكنَّ الخشية اليوم أن يكون قد ركن إلى تلك الإشادات كأنَّها رصيدٌ أبدي، فيما الواقع يصرخ بأنَّ ما مضى لم يَعُد كافياً.
المطلوب من الوزير ليس التذكير بما أنجز، بل أن يُقدِّم الجديد، الجديد في خطةٍ عاجلة للتصدي للأوبئة، الجديد في الشفافية حول مصير المساعدات الطبية، والجديد في مواجهة تُجَّار الأزمات الذين حوَّلوا صحةَ الناس إلى سوقٍ سوداء مفتوحة، المطلوب أن يسمع صرخاتِ غرف الطوارئ ولجان الأحياء، لا أن يكتفي بلغة تقارير مكتبية تُحصي الأرقام وتدفن المعاناة.
الوزير أمام امتحانٍ صعب: إمَّا أن يكون وزيرَ صحةٍ في زمن الحرب، وإمَّا أن يتحوَّل إلى موظَّفٍ بيروقراطي يكتفي بالتصريحات،الخرطومُ اليوم ليست بحاجةٍ إلى خطابٍ إنشائي، بل إلى رؤيةٍ وإدارةٍ واستجابة عاجلة.
إنَّ ما ينتظره الناس من الدكتور هَيْثَم كثير. عليه أن يتذكَّر أنَّ المرض لا ينتظر خططاً خمسية ولا اجتماعاتٍ مطوَّلة، وأنَّ الأوبئة لا تعرف التدرُّج الإداري، الخرطومُ اليوم على حافة كارثةٍ صحيَّة، والولايات الأخرى ليست ببعيدةٍ عنها،وإذا كان الصمتُ تواطؤًا كما يقول أهلُ الميدان، فإنَّ التباطؤَ في الاستجابة هو موتٌ مجانيٌّ بالمُقَسَّط.
لقد عاد الوزير هيثم إلى مقعد الوزارة خلفاً لمعز عمر بخيت الذي تم إعفاوه، وهذه العودة تضعه أمام تحديات مضاعفة في ظل واقع صحي منهك بالأوبئة،فإما أن يكون على قدر المرحلة، وإما أن يدخل التاريخ كمن جلس على كرسي الصحة فيما كانت الأوبئة تأكل الجسد السوداني بلا رحمة.