
Ghariba2013@gmail.com
يأتي يوم الأمم المتحدة للتعاون فيما بين بلدان الجنوب في الثاني عشر من سبتمبر كل عام ليذكرنا بأهمية التضامن والعمل المشترك بين الدول النامية. في عالم مترابط، لم يعد بالإمكان لدولة أن تحقق التنمية بمفردها، بل أصبح التعاون وتبادل الخبرات والموارد ضرورة حتمية، خاصةً بالنسبة للدول التي تمر بمراحل حساسة مثل إعادة الإعمار. يبرز هنا السودان، الذي يواجه تحديات كبيرة بعد سنوات من الصراع، كنموذج يجسد الحاجة الماسة إلى تفعيل هذا التعاون للاستفادة من تجارب الآخرين وبناء مستقبل أفضل.
إن التعاون فيما بين بلدان الجنوب ليس مجرد شعار، بل هو آلية عملية تستند إلى مبادئ التكافؤ والاحترام المتبادل، وتتيح للدول أن تتعلم من بعضها البعض، خاصة في المجالات التي قد لا يغطيها التعاون التقليدي مع الدول المتقدمة. تجارب دول مثل رواندا وفيتنام في التعافي من الصراعات وإعادة بناء هياكلها الاقتصادية والاجتماعية هي كنوز من المعرفة يمكن للسودان أن يستفيد منها. هذه الدول واجهت تحديات مماثلة، ونجحت في تحويل الأزمات إلى فرص، ليس فقط من خلال المساعدات الخارجية، بل عبر تفعيل قدراتها الذاتية والتعاون مع جيرانها.
بالنسبة للسودان، يمكن أن يتركز التعاون الجنوبي على محاور أساسية. أولًا، تبادل الخبرات في مجال إعادة الإعمار والبنية التحتية. يمكن لدول أفريقية وآسيوية لديها تجارب ناجحة في بناء الطرق والجسور والمؤسسات الصحية والتعليمية بعد الصراعات أن تقدم استشارات عملية ومباشرة، بعيدًا عن النظريات. ثانيًا، التنمية الزراعية والأمن الغذائي. السودان يمتلك إمكانيات زراعية هائلة، لكنها تحتاج إلى تطوير. التعاون مع دول مثل البرازيل أو الهند في مجال التقنيات الزراعية الحديثة وإدارة المياه يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لتحقيق الأمن الغذائي، ليس فقط للسودان، بل للمنطقة بأسرها. ثالثًا، بناء السلام والتماسك الاجتماعي. إن بناء السلام المستدام يتطلب أكثر من مجرد اتفاقيات سياسية. يمكن للسودان أن يستفيد من تجارب دول أخرى في المصالحات المجتمعية، وتعزيز دور الشباب والنساء في عملية إعادة الإعمار، وبناء نظام قضائي فعال ومنصف.
إن تفعيل هذا التعاون يتطلب إرادة سياسية قوية، وتنسيقًا فعالًا بين المؤسسات الحكومية، وإشراكًا للمجتمع المدني والقطاع الخاص. على السودان أن يبادر بمد جسور التواصل مع الدول النامية الأخرى، وأن يكون شريكًا فاعلًا وليس مجرد متلقٍ للمساعدات. إن يوم الأمم المتحدة للتعاون فيما بين بلدان الجنوب هو دعوة للسودان ليؤمن بقوته الذاتية، ويستفيد من خبرات الأشقاء والأصدقاء، ليتحول من دولة تواجه تحديات إلى قوة إقليمية قادرة على المساهمة في بناء مستقبل مزدهر للجميع.
تعتبر تجربة رواندا في التعافي وإعادة الإعمار بعد الإبادة الجماعية التي حدثت عام 1994، واحدة من أبرز النماذج على مستوى العالم، وتستحق الدراسة والتدقيق، خاصة للدول التي تمر بظروف مماثلة. لم تكن عملية إعادة الإعمار مجرد ترميم للمباني، بل كانت إعادة بناء للمجتمع والدولة من الصفر.
من أبرز ملامح هذه التجربة، المصالحة الوطنية والتماسك الاجتماعي، فلقد أدركت رواندا أن أساس أي نهضة هو رأب الصدع الاجتماعي. لهذا، ركزت على آليات محلية للمصالحة بدلاً من الاعتماد الكامل على المحاكم الدولية. أحد أبرز هذه الآليات كان محاكم “غاشاشا” (Gacaca)، وهي محاكم مجتمعية تقليدية أتاحت للسكان المحليين محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية على مستوى القرى، مما ساهم في تحقيق العدالة، وتسريع عملية المصالحة، وإعادة دمج الجناة في المجتمع بعد قضاء عقوبتهم.
رؤية قيادية و إصلاحات مؤسسية، فبعد الصراع، تبنت الحكومة الرواندية رؤية طويلة المدى للتنمية، كان أبرزها رؤية 2020، والتي ركزت على تحويل البلاد من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد قائم على المعرفة. تضمنت هذه الرؤية إصلاحات شاملة لمؤسسات الدولة، حيث تم مكافحة الفساد بصرامة لضمان استخدام الموارد بشكل فعال وشفاف، بجانب إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية لزيادة كفاءتها ومرونتها، مع التركيز على التعليم من خلال برامج تدريبية مكثفة لتأهيل الكوادر الوطنية.
التنمية الاقتصادية الشاملة، فلم تعتمد رواندا على قطاع واحد فقط في نهضتها الاقتصادية، بل تنوعت مصادر الدخل. ورغم أهمية الزراعة، فقد استثمرت بشكل كبير في قطاعات أخرى مثل التكنولوجيا والابتكار، حيث أصبحت رواندا اليوم تُعرف بـ “سنغافورة أفريقيا”، بفضل استثمارها في قطاع تكنولوجيا المعلومات، مما جعلها بيئة جاذبة للشركات الناشئة، والسياحة البيئية بالتركيز على حماية الحياة البرية، وخاصة الغوريلا الجبلية، أصبحت السياحة مصدراً هاماً للدخل، وتم إيلاء اهتمام كبير بالبنيات التحتية لبناء الطرق والجسور وتوفير الكهرباء، مما سهل حركة التجارة والاستثمار.
بعد أن أدت الإبادة الجماعية إلى فقدان نسبة كبيرة من الرجال، اضطلعت المرأة الرواندية بدور محوري في عملية إعادة الإعمار. تم منحها حقوقاً ومواقع قيادية لم تكن متاحة من قبل، وأصبحت رواندا من الدول الرائدة عالمياً في تمثيل المرأة في البرلمان.
الخلاصة: إن تجربة رواندا ليست مجرد قصة نجاح اقتصادي، بل هي مثال على أن الإرادة السياسية القوية، والرؤية الواضحة، والتركيز على المصالحة المحلية، وإشراك جميع فئات المجتمع، يمكن أن يحول الدمار إلى ازدهار. يمكن للسودان، من خلال التعاون مع رواندا، أن يستفيد من هذه الدروس لبناء جسور الأمل وإعادة إعمار ما دمرته الحرب.