لا شيء يعادل دفء الصحبة الصادقة التي تشبه وهج شمعة وسط ظلام حالك، تنير قلوبنا بوهج الأنس وتُبدد كآبة الحياة، في غربتنا التي تشبه قفصاً من زجاج، نستبدل الهواء بالحنين، ونستحضر في كل لحظة تلك الأيام التي كنا ننسج فيها مع صديقنا الصحفي عاصم البلال الطيب وصديقنا الإعلامي محمد عبدالقادر، ثوباً من الذكريات المطرزة بالضحكات والحكايات
في شارع الجرائد، كنا كأننا نعيد اكتشاف عوالم جديدة كل يوم، حيث يحمل كل فنجان قهوة عبقاً يشبه قصيدة، وكل رشفة شاي تحمل دفئاً يشبه حضن الوطن، كانت الخرطوم آنذاك كأم حنون تحتضن شقاوتنا الصغيرة، وتمدنا بأجنحة لنحلق فوق تفاصيل الحياة، بعدها، كان نيل الخرطوم يستقبلنا كعاشق صبور، نصافحه بمسامراتنا، ونبثه أسرارنا، أو نقصد “الفوال”، حيث كانت الوجبات البسيطة تتحول بيننا إلى مائدة من ألف ليلة وليلة، بطعمها ودفء القلوب حولها
لكن عاصم، كان كطائرٍ مهاجر يحمل حذر الريح في جناحيه، يرى ما وراء الأفق قبل أن تراه أعيننا ،كنا نبتسم حين يحذرنا من غدٍ لا يبشر بخير، نردد أن الأوضاع مستقرة، لكن الحرب، التي تختبئ كذئب في الظلال، باغتتنا حين اشتعلت، عرفنا أن عاصم كان يقرأ في ملامح الأيام ما كنا نغفله
فرقت الحرب بيننا كما تفرق الرياح السحب، أبوحباب غادر إلى القاهرة، أما عاصم، فقد ظل صامداً في بحري التي أحبها كما يحب العاشق مدينته الأولى، متحدياً نيران الحرب وصوت المدافع ،وحين خرج إلى الساحل، كانت بورتسودان ملاذه الذي احتضن غربته، لكنه ترك في الخرطوم ظل روحه الذي نشتاق إليه
أما نحن، فقد ألقت بنا الغربة في برد القاهرة الذي يلسع كحد السكين، يحمل بين طياته أشواك الفقد ،نفتقد في كل يوم صوت ضحكات عاصم التي كانت كصوت جدول صغير ينساب في صحراء عطشى، كانت حكاياته تشبه كتاباً مفتوحاً يروي قصة السودان بكل ما فيها من ألم وأمل
نحن هنا ننتظر بفارغ الصبر أن يكتب السودان فصلاً جديداً بانتصار جيشه، وأن نعود إلى وطننا الذي يشبه حضناً مفتوحاً يرحب بنا بكل دفء، نريد أن نستعيد تلك الأيام التي كانت مثل أغنية جميلة، نرددها في كل لقاء، نضحك معها وننسى ثقل الحياة
عاصم البلال الطيب ليس مجرد صديق، بل هو قصيدة مكتوبة على دفتر الوطن، تسافر بنا إلى عوالم من الحب والشوق، مهما باعدت بيننا المسافات، فإن ذكراه تظل كنجمة في سماء القلب، تضيء حتى في أشد ليالي الغربة ظلمة.