المقالات

ستظل كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية بقلم : عادل عسوم

.

بالأمس الثاني من سبتمبر مرت علينا ذكرى معركة كرري المجيدة التي وقعت عام 1898، لعمري كم طالت هذه المعركة الوطنية سهام الغامطين من أبناء هذا السودان!، وكم أوغلت في جسدها سيوف الآبقين من بني هذا الوطن!…
لكانهم (يستكثرون) على أهل السودان التغني بمجد للآباء والأجداد شهد له الأعداء!:
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
والنهر يطفح بالضحايا والدماء القانية
ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية
يا إخوتي غنوا لنا اليوم
نعم لم يكن النصر نصرا عينيا بالوصف الذي جادت به قريحة الشاعر، لكنه بلا جدال قد كان نصرا أسمى واكبر وأكثر تماهيا مع قيم الشجاعة والكرامة والفخار.
فالأمر هنا ليس نقاشا لتفاصيل نصر مادي أو هزيمة بقدر ماهو تبيان لقيمة أسمى تبقى ذخرا للأجيال على مر السنوات والحقب…
وما الضير إن سعت أمة أو شعب إلى تمجيد بطولة من بطولات تاريخهم بإضفاء شئ من تزجيج الشعر او بهارج الغناء في ثناياها؟!
وهل كنا في ذلك نشاذا دون شعوب وامم الارض؟!
فالأمثلة على ذلك عديدة ولعلي اذكر بعضها دون حصر:
لنقرأ عن معركة (التل الكبير) لدى أقرب الجيران لنا في الشمال، فقد أخبرني الوالد رحمه الله خلال عمله في السلاح الطبي للجيش البريطاني في مدينة طبرق الليبية، بأنهم تحدث إليهم ميجور انجليزي قدم من لندن لتفقد القوات البريطانية، وقد كانت الفرقة السودانية هي الأقل عددا مقارنة ببقية الفرق الأفريقية والعربية ومنها المصرية، حيث وجه حديثه إلينا وقال مامعناه:
ايما جندي انجليزي شارك في معركة (أم درمان) قال بأنكم أيها السودانيون أشجع من واجههم الجيش الإنجليزي على وجه هذه الأرض، فما كان من أحد الضباط المصريين إلا أن قال:
وماذا عن معركة التل الكبير ياميجور؟!
فرد عليه الميجور:
السودانيون لم يستسلموا أبدا، وقد قتلوا عددا من جنودنا، بينما لم يُقْتَل جندي انجليزي واحد خلال معركة التل الكبير، وقد استسلم القائد أحمد عرابي بينما قاتل قائد القوات السودانية حتى الموت ببسالة!.
وللعلم فإن معركة التل الكبير المصرية كثيرة الشبه بمعركة كرري والتي يسميها الانجليز معركة امدرمان او حرب النهر، إذ في المعركتين انتصر الجيش الانجليزي وسيطر بعدها مباشرة على العاصمتين المصرية والسودانية، لكن يبقي الفارق الأهم بينهما وهو قتال أجدادنا حتى الشهادة، بينما استسلم أولئك بما فيهم قائدهم أحمدعرابي…
ولكن وبالرغم من ذلك فقد كتب المصريون عن (مجيدتهم) التل الكبير فوصفوها بما يجعل الأجيال تفخر بأمجاد أمة وشعب تكاد الأحبار تعجز عن الإحاطة بتفاصيلها! لكننا رزئنا بأناس من بني جلدتنا ينكرون ضوء الشمس من رمد وطعم الماء من سقم حيث كتبوا ومافتئوا ينزعون عن كرري لباس عزها وفخارها ومنهم بصق عليها وقال بأنها كانت وصمة عار في جبين الوطن!!
فهلا تعلموا شيئا من الوطنية من أهل مصر؟!
والمثال الثاني نجده خلال حرب الإستقلال الأمريكيةعن الإحتلال الانجليزي حيث حدثت معركة قلعة (ماك هنري) التي ألهمت محاميا شاب
إسمه فرانسيس سكوت عام 1814 ليكتب قصيدة تم تلحينها على سياق اغنية شعبية إنجليزية لتصبح بقدرة قادر نشيدا وطنيا لأمريكا!.
لنقرأ كلمات القصيدة ومن ثم نعلق عليها:
قل أيمكنك أن ترى مع ضوء الفجر المبكر
ما أشدنا به بفخر مع آخر لمعات الشفق،
ذي التقليمات الواسعة و النجوم الساطعة، خلال المعركة المحفوفة بالمخاطر و فوق الأسوار شاهدناه يرفرف ببسالة
ووهج الصواريخ ‘الأحمر، وانفجار القنابل في الهواء
دلّ خلال الليل أن علمنا كان لا يزال موجوداً؛
قل ألا تزال هذه الراية الموشحة بالنجوم ترفرف
على أرض الأحرار و موطن الشجعان؟
يُرى على الشاطئ بشكل مبهم عبر سدم الأعماق
حيث مضيف العدو المتغطرس يرقد بصمت مطبق
ما هذا الذي يخفي نصفه النسيم و يظهر نصفه، فوق المرتفع الشاهق
بينما يهب بتقطع
الذي تغطيه الآن أشعة الصباح الأولى
بمجده التام المنعكس يشرق الآن في الأفق
هي الراية الموشحة بالنجوم، عسى أن تدوم رفرفتها
على أرض الأحرار و موطن الشجعان
و أين هي تلك الفرقة التي أقسمت بتبجج شديد
بأن فوضى الحرب و ارتباك المعركة،
وطن و بلد لن يتركانا بعد الآن؟
غسلت دماؤهم تلوث أفعالهم الحمقاء
لن ينقذ ملجأ الرقيق و العبيد
من رهبة الرحيل، أو ظلمة القبر
و الراية الموشحة بالنجوم ترفرف بانتصار
على أرض الأحرار و موطن الشجعان
و لتكن إذاً أبداً حين يقف الرجال الشجعان
بين وطنهم المحبوب و خراب الحرب
مباركة بالنصر و السلام، عسى الأرض المنقذة من السماء
ان تشيد بالقوة التي حفظتنا و جعلتنا أمة
إذاً علينا أن نحرر، عندما تكون قضيتنا عادلة
و يكون شعارنا بعدئذ “بالله نثق”
و الراية الموشحة بالنجوم سترفرف بنصر
على أرض الأحرار و موطن الشجعان

من يصدق بأنه لم تكن هناك أبدا صواريخ ووهج قنابل بالصورة التي تحدث عنها المحامي الشاب خلال تلك المعركة!تلك القلعة دفع اليها العبيد خلال معركة لم تستمر طويلا فوضعوا أيديهم عليها، ولكن وبالرغم من ذلك لم ينصفهم الشويعر ونشيد أمريكا الوطني بل لم يذكرهم بخير ودونكم كلمات النشيد لتتبينوا ذلك!
وذاك ليس شاهدنا إنما الشاهد قدر التمجيد والوصف (الفلكي) لمعركة صغيرة كي توحي للأجيال مجدا أرادوه تليدا!
وهناك-أيضا- ما سَطّره الإنجليز تمجيدا لسلاح طيرانهم عندما كتبوا عن معركة (يوم النسر) دفاعا عن الأراضي البريطانية في وجه سلاح الجو الألماني حيث دَمّر الألمان غالب الطيران البريطاني وهو على الأرض فإذا بالإعلام البريطاني يقلب الحقائق ويرسم صورة (مجيدة) تدعو للفخار عن تلك المعركة والمضحك أن اعداءهم الألمان أيضا قد احتفوا بها واسموها(Adlertag)!
ولكن لعب الحظ دوره لصالح الانجليز عندما هزم هتلر وذوت ذكرى تلك المعركة في خضم أحزان الألمان!
فلماذا لانمجد مجاهدات واستماتة الآباء والأجداد في كرري؟!
لعمري أن كرري لمعركة كبيرة، وفيها الكثير من العبر والبطولات التي تشرف شعبا وأمة.
ومن أراد أن يستبين ذلك فليقرأ ماذا كتب ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الذي كان جنديا وقائدا لفرقة من فرق الجيش الانجليزي خلال تلك المعركة (وهو العدو) في ثنايا هذا التلخيص المنقول:
جاء في كتاب حرب النهر لمؤلفه الضابط في الجيش الانجليزي ونيستون تشرشل:
لقد سمى ونستون تشرشل معركة كرري بالمعركة الفاصلة مابين (المدنية البريطانية والإسلام)!
وأفاض تشرشل في الثناء على الحركة الجهادية الإسلامية السودانية التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي، كما نظر نظرة إعجاب شديدة إلى انجازات تلك الحركة مؤكداً أنها أنجزت كل ما كان بإمكانها أن تنجزه، وانجرَّ بعد ذلك إلى حيز المبالغة عندما زعم بأن إنجازات المهدي في حياته كانت أكثر من انجازات محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، وقال إن الخليفة عبدالله عندما انهزم بجيشه في كرري فإنه انهزم فقط لأنه واجه آلة علمية هائلة من آلات الحضارة الغربية وليس لأي سبب آخر.
وشارك الضابط والصحفي ونستون تشرشل- الذي قدّر له فيما بعد أن يصبح رئيسا لوزراء بريطانيا- في الحملة الإنجليزية التي قادها اللورد كتشنر لسحق الثورة الإسلامية. وكان الصحفي تشرشل بجانب الاستخباراتي ونجت من الأفراد القلائل في الغرب الذين أدركوا سرّ تلك الثورة وسبب نجاحاتها المتواصلة في تجييش السودانيين ودحر الأجانب.
غموض الأوضاع السودانية آنذاك:
وفي تلك الإبان خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر مرت سياسة بريطانيا تجاه السودان بعدة مراحل اكتنفها الغموض والخطر البالغ:
ففيما بين 1880- 1882 م تجاهلت بريطانيا السودان رغم أن غردون كان يرابط في الخرطوم وينتظر مصيره على يد المجاهدين، وفيما بعد 1882 م أي عقب انتصار الجيش البريطاني على الثائر المجاهد أحمد عرابي في معركة التل الكبير، اكتشف الانجليز خطورة الأحوال السياسية السودانية. وفي 2/10/1882 م اقترح السير شارلس ولسون الذي عمل فيما بعد مستشارًا للجيش البريطاني في مصر إرسال ضابطين بريطانيين إلى السودان بغرض بجمع معلومات محددة واقتراح سياسة معينة تجاه الثورة السودانية.
في يونيو 1885 م سقطت حكومة جلادستون لأنها عجزت عن تكوين فكرة واضحة عما يجري في السودان وجاءت وزارة جديدة مصممة على التدخل في السودان وذلك بعد أن استطاعت أن تكون جيشاً تتراوح أعداد افراده ما بين 80 الف إلى 150 ألفا، ومجرد النجاح في تجنيد ذلك العدد الكبير من الأفراد حسب بمثابة خطر جدي يهدد الاحتلال الانجليزي لمصر.
استخدام الخونة المسلمين:
و إزاء ذلك تم تصميم سياسة التدخل العسكري لسحق الثورة الإسلامية السودانية وتكون الجيش الغازي بقيادة السردار كتشنر من 8,200 جندي بريطاني و 17,600 جندي مصري أي أن أكثر من ضعف عدد الجنود كانوا مصريين!.
معركة الساعات الخمس:
ومهما يكن فقد التقى الجيش السوداني بالجيش البريطاني وماجاء معه من جنود مصريين في اليوم الثاني من سبتمبر عند الساعة السادسة صباحا، وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من ذلك الصباح انجلت المعركة باستشهاد ثلاثة وخمسين وستمائة وعشرة آلاف من قادة وجنود الجيش السوداني وأصيب بجراح نحو ذلك العدد وذهب خمسة آلاف في الأسر.
وقام الجيش الإنجليزي الذي كان يمثل عهد المدنية كما ادعى تشرشل بإبادة عدد كبير من الجرحى بدعوى أن بعضهم كان يقاتل حتى وهو مثخن بالجراح!.
أما الخسائر على جانب جيش الغزو فقد كانت كالآتي:
مقتل ثلاثة ضباط إنجليز وخمسة وعشرين جنديا وجرح سبعة عشر ضابطا إنجليزيا وبضعة مئات من جنودهم.
وقبل الساعة العاشرة صباحا أي قبل توقف القتال أرسل كتشنر إلى رؤسائه تلغرافا يعلن نتيجة المعركة ثم أخلد إلى النوم في خيمته.
شجاعة الجيش الإسلامي السوداني:
هكذا انتهت المعركة كما يرويها أحد الذين اشتركوا فيها وهو بيير كريبيتي مؤلف كتاب (كسب السودان) الصادر في عام 1934م وقبل أن نمضي في استخلاص بعض النائج يلزمنا أن نستعرض أقوال بعض من شهدوا المعركة من أفراد جيش الغزو متحدثين عن شجاعة أفراد الجيش السوداني:
يقول مؤلف الكتاب الذي سلفت الإشارة إليه:
” إن جيش الغزو فتح نيرانه على الجيش الإسلامي من على بعد سبعمائة وألفي ياردة وفي خلال ظرف وجيز حُصدت القوات التي قادها عثمان أزرق بواسطة قذائف الرصاص ولكنهم كانوا صناديد نظروا إلى الموت في وجهه ولم يتراجعوا قط وقاتلوا مثلما قاتلوا في معاركهم السابقة كالأسود.
ويقول صاحب كتاب (حياة كتشنر) عن الجنود السودانيون:
” كانوا كلما سقط منهم مائة انطلق مائة آخرون فحلوا محلهم وتقدموا بشجاعة فائقة ولم يأبهوا بقوة النيران ولا بكثافة انطلاقها ولم يتوقفوا ليلتقطوا أنفاسهم وما زالوا يتقدمون حتى أصبحوا على بعد ثلاثمائة ياردة.
ويقول المؤلف السابق إنه كلما اقترب أولئك من مرمى النيران كلما تحولت صفوفهم إلى أشلاء بأثر النيران الشنعاء ولم تلبث جثثهم أن صارت أكداسا وركاما. وخلال أربعين دقيقة من بدء القتال كان أكثر من ألفين من أفراد الجيش السوداني بما فيهم عثمان أزرق نفسه قد قتلوا ولكن بقيتهم كانت لا تزال تواصل القتال”.
ويقول جورج وارنجتون ستيفنز في كتابه (مع كتشنر إلى الخرطوم) وهو يوازن بين أداء الجيش السوداني وجيش الغازي :
” إن شرف القتال يجب أن يسدى إلى أولئك الذين حصدهم الجيش الإنجليزي، لقد كان رجالنا ممتازين حقا ولكن كان أولئك بدرجة استثنائية تفوق درجة الامتياز، فقد كانوا أكبر وأفضل وأشجع جيش قابلنا على الإطلاق”.
ويقول ج. دنكان صاحب كتاب (السودان: سجل الإنجازات) يصف لحظة اندلاع المعركة:
“إن أفراد الجيش الإسلامي اندعوا رجالا وركبانا في كتلة عرضها خمسة أميال نحو مكان إطلاق النيران مهللين مكبرين في حماسة منقطعة النظير وكان أفراد الجيش الإنجليزي ومن معهم من الجنود المصريين صامتين متربصين، وما لبثوا أن أطلقوا نيرانهم من على بعد ثمانمائة وألفي ياردة.
ولابد أن يكون أولئك الذين أطلقوا النيران قد أصابهم الرعب الشديد لكثرة ما أوقعوا من القتلى وسط المسلمين السودانيين الذين كانوا لا يكفون عن الاندفاع وكانت القذائف تتساقط بكثافة فوق رؤوسهم ولا تلبث أن تصنع فجوات ضخمة وسط صفوفهم مثل حقل قمح أعمل صاحبه آلات الحصاد الهائلة في وسطه وفي أطرافه، كانوا يتساقطون وتتساقط مطاياهم وراياتهم وأسلحتهم الصغيرة، وبعد أربع ساعات انتهى أمرهم تماما”.
أما كتاب (حملة السودان:1996ـ1998م) الذي كتبه أحد ضباط الحملة فهو يصف المعركة كالتالي:
“لقد كان المشهد باهرا إلى حد بعيد، فعندما سطعت أشعة الشمس على تلك الأرض المنبسطة التي تكتنفها الكثبان بدت جموع رجال لا تعرف قلوبهم الخوف يلبسون الجبب المرقعة الألوان وتخفق فوق رؤوسهم أعلام لا تحصى ويتقدمهم فرسان مخاطرون يندفعون بثقة متناهية بالنصر وازدراء مطلق للموت”.
هكذا كان آباءنا وأجدادنا في كرري بعين العدو الذي قاتلهم وجها لوجه، وقد قال بعضهم صراحة بأن السبب الأساس لهزيمة آباءنا وأجدادنا في كرري هو مدافع (المكسيم) الانجليزية التي لم يكونوا يعلمون عنها شيئا ولم يحسبوا لها حسابا وهم من وثق لهم الانجليز انفسهم تكتيكات المعارك المدهشة في شيكان وغيرها كتكتيك الصندوق الحربي الذي اذهل الجيش الانجليزي وكان سببا في عدد من انتصارات السودانيين.
ألا تستحق مجاهدات مثل هذه أن تسطر بماء الذهب وتعلق على جدران القلوب؟!
لعمري إنه عار على كل من يغمط كرري من أبناء هذا الوطن؟!
ولتبق كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية بشهادة رئيس وزراء بريطانيا الذي وثق لكرري في مؤلف له بإسم (حرب النهر) قبل يصبح رئيسا لوزراء بريطانيا العظمى حينها.
ولتدم انت أيها الوطن
adilassoom@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *