
أستوقفني ذات نهار (خرطومي) صهده يلفح الوجوه ويلسعها بلا رحمة فيديو كالنسمة إبَّان تصفح عشوائي على السوشال ميديا، عندما كانت الخرطوم تسع الجميع وتترامى أطرافها يوما تلو الآخر حتى لا تحرم قادما إليها من المأوى، قبل أن يكافئها حكامها الجدد بجز الرأس أمام عيون الكاميرات وسط نحيب الشوارع الشاحبة؛ وعويل المباني المتساقطة؛ ودموع المقرن تفيض حسرة عند ملتقى النيلين؛ فالعاصمة التي تمثل العقل قد ماتت دماغيا بعد أن هجرها مجبرين وسط لعلعة الرصاص معظم قاطنيها؛ وفارقها أهلها؛ وهرب منها ثلاث أرباع ساكنيها.
كان الفيديو بسيط المحتوى، ومحشو بالبهجة، ومحتشد بالتفاصيل لشاب يوثق بطريقة مختلفة لزفاف صديقه في قريتهم (هاجر دبيرة شمال) بحلفا الجديدة .. مقالدة الأهل، وزغاريد السعادة، وتلقائية المشاهد، وصيوان العرس بشكله القديم، ورقص أهلنا الحلفاويين على أنغام الفنان النوبي (المصري) عيد سليمان تعكس خصوصية المنطقة، وعمق تواصلها، وقفزها فوق حواجز الحدود، وسيادة صوت ثقافة التماس شمالا وجنوبا رغم أنف القُطْريين ممن يظنون أن جغرافية الدول، وفواصلها المرسومة كحدود بإمكانها بتر ثقافة الشعب النوبي وتقسيمها بشهادات بحث منفصلة بين دولتين رغم صلة الرحم التي تظل عصية على الفصل، والنسب الثقافي الذي يقفز فوق الأسلاك الشائكة ليرسم أبهى لوحات الوصل.
تعددت فيديوهات الشاب من بعد ذلك، ودخل الأفئدة غازيا مقتحما عبر مقاطع خفيفة الظل تجمع ما بين المفارقة الساحرة والأبعاد الساخرة .. أضفى نكهة كوميدية مختلفة سعى خلالها لزرع الإبتسامة بين الشفاه عبر تجسيد المقاطع (الترند) بطريقته الخاصة على (التيك توك) وغيره من مواقع التواصل .. عفويته لا تخطئها العين، وبساطته تلفت له الأنظار، وتلقائيته تشدك للمتابعة، فصانع المحتوى محسن دارية أبو عاكف الذي فجعنا بنبأ رحيله عن الدنيا اليوم إثر علة لم تمهله طويلا يعتبر (تيكتوكر) شاطر سعى للترويح عن الناس، فلسفته الخاصة تكمن في تخفيف الضغط على الآخرين عبر العمل لإسعادهم بمخاصمة التكشيرة و(تغيير المود) من خلال فيديوهات خاطفة وبسيطة تتباين فيها الآراء ولكن يبقى مسعاها نبيلا؛ وهدفها التسلية في بلد مثقل بالجراح ينام على كارثة ليستيقظ على مأساة، حتى بلغت مصائبه سدرة منتهاها بإشعال حرب لا تبقي ولا تذر فكل مافي الأرض أهلكته؛ وكل ما في الأفئدة من أمل أخضر أكلته.
رحم الله محسن وتقبله قبولا حسنا، فقد كان صاحب محاولات بديعة، و(كونتنت كريتر) مجتهد، والتعازي القلبية لأسرته المكلومة ومحبيه ومتابعيه.