الأخبار

حاكم دارفور مني اركو مناوي يكتب : ” القدَمُول او الكدمول ” ليس سلاحًا بل ثقافة سودانية و وقاية قبل أن يكون جزءًا من الهندام

في السودان، حيث تتضارب الثقافات وتتقاطع بعضها مع بعض، تبرز الحقيقة البديهية أن التنوع لا يفسد الهوية الوطنية الواحدة. بل إن التنوع يشكل في جوهره مزيجًا غنيًا من الألوان والأنماط، التي تساهم في إثراء القوة والجمال. ومع ذلك، فإن من يجهلون هذه الحقيقة ويقفون ضدها هم أعداء التنوع وبالتالي أعداء الوحدة الوطنية السودانية.

في المرحلة الابتدائية، وعندما كنا في الصف الثالث، درسنا أبجديات الجغرافيا التي كانت البداية لفهم أوسع عن السودان. كانت هذه بداية رحلة للتعرف على السودان بمختلف مناطقه وتنوعاته. وفي هذا السياق، نجد أن هناك قصة شاعرية لفتت انتباهنا، تتحدث عن شاب، لا نعرف إن كان رمزيًا أو حقيقيًا، سافر عبر جميع مناطق السودان. بدأ من الشمالية ووصفها بشجر النخيل والسواقي ، التي أصبحت ملهمة لقصيدته، مرورًا بالقولد حيث التقى بصديقه الذي وصفه بأنه “فاضل الصديق”.
كنت جاهلا من هو هذا الصديق ؟ إلا في 2014 كنت في سيارة برفقة السيد والي ولاية الشمالية السابق الأستاذ صديقي العابدين عند مرورنا من القولد هو أشر الي القول التي تقع بين دنقلا والدبة ، حيث تذكرت بالقصيدة ذاكرا أسم ‘الاسم ‘ صديق ، فاخبرني الوالي بانه صديق عبدالرحيم لا يزال أسرته تقيم في نفس القرية الوادعة الجميلة .
واصل الشاب رحلته شبه الخيالية إلى مناطق عديدة، منها سمعناها ولم نزرها حتي يومنا هذا مثل يامبيو في الجنوب، وريرة في شمال كردفان حيث وقف عند بئر يجره دلوه بالعجل ، وصولاً إلى غرب كردفان حيث اهلنا البقارة تكثر فيها الذبابة التعيسة. كانت هذه الرحلة بداية لفهمنا العميق لجغرافيا السودان ولإحساسنا بأصالته وثرائه الثقافي.

كلما تقدمنا في مراحل الدراسة، أصبحنا أكثر وعياً بكيفية تكامل الجغرافيا مع التاريخ والحاضر واللغة والثقافة. هذه المكونات مجتمعةً، أضافت لنا معرفة شاملة حول السودان وهويته، التي نستقيها من الأقوال والأدب والمراجع المقرؤة.

عناصر الهوية السودانية عديدة ومتنوعة، من بينها الطعام، اللبس، الزراعة، الرعي، الأغنية، والأبنية. وإذا اعتقد أحدنا أنه يجب حذف بعض هذه العناصر بغرض إبقاء البعض ، فهو غير واقعي. التنوع في هذه العناصر هو ما يشكل الملامح الحقيقية للهوية السودانية.

على سبيل المثال، لا يمكن النظر إلى “الكدمول” باعتباره مجرد عنصر عسكري أو دخيل. في الواقع، الكدمول هو جزء من ثقافة شعبية عريقة ، وليس مجرد زي عسكري. فهو في الأصل “عمامة ” فقط الاختلاف فيه هو طريقة وضعه في الرأس . فالعمامة اصلها لأهل المناطق المكشوفة . استخدامها لأغراض عديدة قبل أن تتحول إلى جزء من الهندام الحضري، وهي في الأصل وسيلة للوقاية من البرد والحرارة، وأحيانًا من الأتربة. كما هو اي الكدمول يحفظ به رطوبة الجسم في المناطق الجافة ذات الهواء الجاف تكثر فيها السموم والحرور ، ويساعد على تقليل تأثير الشمس الحارقة وفي المناطق التي تندر فيها موارد الماء ويقوم غرضه تقليل تبخر الماء من الجسم ، خاصة في الصحارى. بالإضافة إلى ذلك، يساهم في إخفاء ملامح، الوجه وهو ما ينطبق على كل من الرجال والنساء.

أما عن استخدام الكدمول في السياقات العسكرية في السودان ، فقد أصبح أكثر انتشارًا خاصة بعد قيام الحركات العسكرية في غرب السودان. ورغم أن هذه الاستخدامات العسكرية قد تكون حديثة نسبيًا، إلا أن الأغراض الأساسية لا تزال كما هي، لتوفير الحماية من العوامل البيئية، ما جعله مناسبًا للأغراض العسكرية.

تاريخيًا، نجد أن الإمام محمد أحمد المهدي يظهر في صورتين مشهورتين وهو يرتدي الكدمول. إحداهما رسمها القس جورج روفالدو تحت شجرة الدوم في الرهد أبو دكنة، وهذه الصورة تعد واحدة من أقرب الرسوم لشخصية المهدي. والأخرى لا نعرف من رسمها، لكنها أصبحت الأكثر شهرة في الكتب والمراجع. وفي كليهما يظهر المهدي وهو يرتدي الكدمول، مما يثبت أن الكدمول كان جزءًا من ثقافته الصحراوية السودانية الدنقلاوية ، بغض النظر عن تفاصيل نسبته.

من هنا، نؤكد أن الكدمول ليس مجرد قطعة ملبس عسكري بل هو جزء من هوية شعبية وثقافية، ويجب الحفاظ عليه كجزء من التراث السوداني. تقليص قيمته أو محاربته يشبه محاربة هويات شعبية أخرى في السودان، مثل تقليل من أهمية اللباس التقليدي لأهل الشرق أو فرض ملابس معينة على أهل الجنوب أو منع البدو من حمل العصي. فالتنوع في اللباس والعادات يشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية السودانية.

أما بالنسبة للجلابية السودانية بشكلها الحديث، فهي أيضًا تعكس تنوعًا ثقافيًا، فطريقة ارتدائها مع العمامة أو الشال الملفوف أو “المركوب النمري” أو “العسلة” تساهم في تشكيل الهوية الثقافية السودانية. ولكن قد لا يرتديها الجميع في كل وقت وبذات الهيبة ، إلا أنها تظل جزءًا من الثقافة الهندامية التي تعكس تنوع السودان.

إذن، الشعب السوداني لا ينسجم إلا من خلال عاداته وتقاليده. كل منطقة ولها تفاصيلها الخاصة، وهذه التفاصيل مجتمعة تشكل الثقافة السودانية الغنية والمتنوعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *