المقالات

همس الحروف.. هل تحولت العدالة إلى ساحة صراع بقلم د. الباقر عبد القيوم علي

ما رواه المقدم نزار محمد الحسن في قصتة الموجعة ملأت الأسافير حزناً ، فما حدث له يعتبر جرس إنذار مرعب يدق بعنف في قلب منظومة العدالة السودانية ، فنحن الآن أمام سردية من العيار الثقيل ، تكشف عن تشققات خطيرة أصابت جسم الدولة السودانية وكذلك كشفت عن ممارسات تنذر بإنهيار الثقة في المؤسسات المعنية بحماية القانون وتطبيقه .

لا تنحصر القصة في طرفي الخصومة بين ضابط شرطة ووكيل نيابة ، فجوهر المسألة أن الدولة بأكملها باتت مهددة ، فمثل هذا السلوك يفرغ مثلث العدالة من محتواه ، ويحول السلطة إلى شأن شخصي ، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام تكهنات البسطاء عن الفساد الوظيفي ، والتعسّف والانفلات .

المؤلم في هذه الرواية أن النيابة هي الجهة التي يُفترض أن تكون حجر الزاوية في ميزان العدالة ، وصوت القانون الصارم الذي ينطق باسم الحق العام ، فقد انزلق منتسبها بدون مبرر إلى موقع الخصومة ، الشيء الذي أعطى إحساس للناس بأن المشهد تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات ، واستخدام نفوذ السلطة في غير موضعه ، فقطعاً مثل هذه الأمور كلها تؤدي إلى إهتزاز هيبة العدالة في جوهرها .

تأملوا معي هذه السردية جيداً ، وكيل نيابة يتوجه بنفسه لترحيل متهم خطير في قضية أمن قومي ، من دون قوة كافية ، ودون مراعاة للزمن أو الإجراءات القانونية الواجبة ! ، فماذا كان ينوي أن يفعل؟ ، وما الدافع وراء هذا الإصرار الغريب على تجاوز السلم القانوني وتخطّي الضوابط التي وضعت لضمان العدالة ، وليس لتجاوزها ؟ .

أسئلة كثيرة ما تزال بانتظار أجوبة شافية ، فعندما يخرج صاحب أي سلطة في مثلث العدالة الذي يمثل الشرطة ، النيابة والقضاء عن إطار القانون ، لن تبقى الدولة دولة .

لقد ارتكبت المؤسسة الشرطية للأسف الشديد خطأً فادحاً عندما سارعت إلى رفع الحصانة عن ضابطها قبل إجراء تحقيق داخلي عادل يبين حقيقة ما نُسب إليه ، فرفع الحصانة بهذه السهولة وفي زمن قياسي ، ومن دون التثبّت من صحة الاتهام ، لا يعد عدلاً ولا حياداً ، ويعتبر تنازلاً خجولاً عن كرامة المؤسسة وهيبتها ، وبذلك ستدفع أفرادها إلى ممارسة مهامهم في حماية القانون وهم أقرب إلى الخوف منهم إلى الاطمئنان .

لماذا تم منح الحصانة أصلاً ؟ ، أليست هي الوسيلة لحماية الضباط وتمكينهم من أداء واجبهم في مواجهة أخطر الجرائم ؟ ، فإذا كانت تُرفع بهذه الخفة ، فبأي منطق نطالب ضابط الشرطة بأن يقف بثبات في وجه العصابات ، أو أن يتحمل مسؤوليته كاملة وهو يعلم أن الحماية التي يفترض أن تسند ظهره يمكن أن تنتزع منه في أي لحظة ما بدون تثبت .

أخطر ما في هذه القصة أنها صارت حدثاً عادياً ، رغم أنها كشفت خللاً بنيوياً لا يكمن في الأشخاص وحدهم ، إذ يتعداهم إلى طبيعة العلاقة بين مؤسسات الدولة العدلية التي يفترض أن تعمل بتناغم واتساق ، فإذا صارت النيابة ، في هذه السردية ، تتصرف وكأنها الآمرة والناهية على الشرطة ، مستعليةً عليها وظيفياً ، ثم تحمل في الوقت نفسه مآخذ على محكمة الإستئناف لمجرد إلغائها لبعض أوامرها ، فهل يُعد ذلك جهلاً بالقانون أم تلاعباً بأدواته بلا ضابط ولا قيد؟ ، وهذا النوع من السلوك ، وهو ما زال محسوباً عندنا على الجانب الفردي فقط ، فهنا لا بد للمؤسسات معالجته قبل أن نصل إلى عتبة السقوط .

لا دولة بلا عدالة ، ولا عدالة بلا مؤسسات محترمة ، ولا مؤسسات محترمة بلا حدود وسلطات واضحة ، ولا سلطات واضحة مع أشخاص يتعاملون مع القانون بروح المنافسة ك(الهلال والمريخ) ! .

ما حدث لا يمكن اعتباره مجرد مخالفات ، إذ يعتبر أقرب إلى الإنحراف المؤسسي في أداء الواجب ، وستحدث هذه الممارسات ، وأجزم أنها أحدثت ثقوباً سوداء في جسد الدولة وميزان العدالة .

إن ما جرى للمقدم نزار محمد الحسن ، وبغض النظر عن الأسماء والأشخاص ، يشكل ناقوس خطر لكل ضابط شرطة ، ولكل صف ضابط ، ولكل فرد يعمل تحت ضغط الميدان ، فإذا لم يتم معالجة هذا الخلل اليوم ، فقد يأتي الغد الذي يدفع فيه رجال الشرطة ثمن حماية الوطن بأكمله قبل أن يدفعوه من مستقبلهم المهني .

نحن لا نريد بطلاً جديداً يقدم قرباناً على عتبة الصلاحيات ، ولا نريد جهاز شرطة يعمل وهو يخشى من أي حركة يقوم بها في سبيل وأد الجريمة ، ولا نيابة يطغى على أدائها حماس يتجاوز حده ، إن ما نرجوه هو منظومة عدلية متكاملة ، ولا نريد ساحة صراع أو ميدان خصومة ، فإذا صحت تفاصيل هذه القصة كما وردت ، فالمصيبة جسيمة ، والخطر القادم أعظم ، والصمت عنها تقصير لا يليق بنا . وحينها حقاً يمكن أن نقول على الدنيا السلام ، لإننا بلغنا لحظة تستوجب من الجميع وقفة صدق مع الوطن .

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *