الأخبار

هناك فرق – منى أبوزيد تكتب: في الغيب والشهادة..!

*”كلّ موتٍ في سبيل الوطن جديرٌ بأن يُسمى شهادة، لكن المشكلة في ادعاء امتلاك حق منع أو منح صكوك الشهادة في مجتمعات السودان السياسي” .. الكاتبة..!*

استُشهد شابٌ في منطقة “أم سيالة”، اسمه أحمد محمد أبو بكر، ولقبه “خفاش”، فامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بردود أفعال متباينة، بين رثاء بعض الإسلاميين وشماتة بعض الدعامة ..!

الرواية المتواترة تقول إن هذا الشاب كان يقاتل في صفوف القوات التابعة للجيش في معاركها مع مليشيا الدعم السريع، لكنّه ظهر ذات مرة في مقطع فيديو وهو يعترف بالمشاركة في فض اعتصام القيادة العامة، حيث استشهد شبابٌ عزّل، ماتوا أيضاً من أجل الوطن..!

قبل أن تنشغل بالتصنيف تذكر أنك في السودان، حيث قد تخرج لتُطالب بحياةٍ كريمة، فتموت وتُشيَّع شهيداً، وقد تخرج لتمنع المطالبة بذات الحياة الكريمة فتموت أيضاً، وتُسمى شهيداً..!

الشهادة عندنا ليست فعلًا مطلقاً، بل تقييم سياسي لفعل الموت، والدم هنا ليس ماءً، لكنه ليس واحداً أيضاً. دمُ الثائر مقدّس بين رفقاء شارع القيادة الذين لا يؤمن بعضهم بقدسية دم عسكري الجيش أو الكتائب أو القوات المشتركة الذين قد لا يؤمن بعضهم بقدسية دم المتمرد.. وهكذا.. وما بين حرب الجنوب، وفض الاعتصام، ومعارك تحرير الخرطوم، وشهداء حصار الفاشر، تتباين وتتمايز وتتعدد مقامات الشهداء..!

في جنوب السودان مات الآلاف من الجنود والمتمردين، وفي نشرة التاسعة بتوقيت مواقعهم ومواقفهم من هذا الوطن أذيعت أسماؤهم جميعاً كشهداء. وفي دارفور كانت الميليشيا تُشيّع ضحاياها بالشعارات الدينية، وتبكيهم أمهاتهم كما تبكي أمهات شهداء عساكر الجيش والكتائب والقوات المشتركة..!

فمن الشهيد، من القاتل، من يمتلك شهادة وفاة ممهورة بكلمة “في سبيل الله والوطن”؟. أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى تعريف جديد للشهادة، بل إلى ضمير وطني لا يرهن معنى الشهادة بتسييس الشعارات..!

في كل بيت سوداني صورة شهيد، أحدهم مات في التسعينات من أجل الشريعة الإسلامية، والآخر في 2013 من أجل الدولة المدنية، وثالث في 2019 من أجل الحرية والسلام والعدالة، ورابع من أجل تحرير العاصمة من قبضة المليشيا، وآخر من أجل تحرير الفاشر ، وكلهم يُوصفون عند ذويهم ورفاقهم وحلفائهم بالأبطال..!

في هذه المرحلة بتوقيت هذه الحرب ربما يكون الوقت قد حان حقاً لنكف عن تعليق الألقاب على نعوشنا، ولنبدأ في مراجعة الفكرة ذاتها. هل الشهادة في السودان معنى عقائدي أم موقف أخلاقي أم اصطفاف قبلي أو سياسي..!

وهل يكفي أن تموت في الزي الصحيح، وتحت الشعار الصحيح، لكي يجزم مشيعوك بأنك سوف تُبعث عند ربك شهيداً، أم أن الله وحده يعلم من الذي يقاتل لنصرة الحق، ومن الذي يموت وهو يظن أنه على حق..!

ربما، في نهاية هذا الدرس الملطّخ بالدم، لا نحتاج إلى تعريف جديد للشهيد، بل إلى اتفاق جديد على معنى الوطن الذي هو عند البعض الخرطوم المحررة التي لم نرجع إليها بعد، وعند آخرين الدولة المدنية التي لم تولد بعد، وعند فريق ثالث دارفور التي أعلنت فيها ولادة حكومة موازية..!

إن أخطر ما كشفته هذه الحرب، ليس فقط فوضى الجغرافيا، بل فوضى القناعات. لقد تفرق دم الوطن بين أبنائه، حتى صار كلٌّ منهم يموت من أجل “وطنه الخاص”، ويصلي على من سواه صلاة الغائب..!

بينما وحدها الشهادة التي تُبنى على معنى جامع هي التي يمكن أن تكون نبيلة حقًا. وإذا كان لا بد من موت آخر في زمن آخر من عمر هذا السودان فليكن على الأقل موتً نتفق على وحدة معناه..!

الدرس الأهم من هذه الحرب هو أن نخرج منها وقد تواضعنا على تعريف موحد للوطن والشهادة، وعلى مبدأ وطني يستحق أن نطلب الشهادة في سبيله، لا أن نقاتل القريب ونتحالف مع الغريب للوقوف ضده!.

munaabuzaid2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *