
*”لا يخرج من ظلال الكبار نظيفاً إلا من اختار أن يبقى في الظل طوعاً لكي يحمي النور، فيصبح ظله مكانة وصمته منزلة”.. الكاتبة..!*
الذين باحوا كثيرون، من كان سكرتيراً أو مستشاراً، أو شاهداً على مقعدٍ قريبٍ من السلطة، ثم قرر أن يُدلي بشهادته على الملأ، ليس حباً في الحقيقة بل شغفاً بالأضواء أو طمعا في المكاسب..!
جون بولتون نشر أسرار غرفة القرار في عهد ترامب، وسكوت ماكليلان كتب عن كواليس الحرب على العراق. وقبلها تحدث صلاح نصر عن ما لا يجب أن يُقال، وكشف عبدالحليم خدام ما أخفاه لسنوات في ظل نظام الأسد. حتى مصطفى الفقي ومحمد حسنين هيكل – رغم تباين الأسلوب – لم ينجحا في مقاومة غواية الإفصاح..!
بعضهم أراد تبرئة نفسه، وبعضهم أراد تصفية حسابه، والبعض الآخر خُيّل إليه أن ما يعرفه ملكٌ له، وليس أمانة عنده. وهكذا تحولت ذاكرة السياسة إلى سوق تُشترى فيها الشهادات، وتُباع فيها السمعة، وصار السكرتير الخاص أقرب إلى “مُخبر خاص” لجمهور الفضول..!
لكن السيد عوض بابكر، مدير المكتب الخاص للدكتور حسن الترابي، الذي انتقل إلى دار الحق يوم أمس، لم يكن من ذلك الطراز، بل عاش بين الناس بعد رحيل شيخه بصمت النبلاء، وكما عاش رحل..!
لا صخب، لا تسويق، لا استعراض، لا مفاجآت أخيرة، وكأنه كان عازماً على إكمال آخر أيامه في الحياة وهو ما يزال يتحلى بآداب المغادرة..!
الرجل الذي كان يعرف أكثر من الجميع، لم يكن شاهداً عابراً، بل خزنة أسرار مغلقة عاشت بين كواليس السلطة وقمم صنع القرار، واختبرت تبعات وقوع الزلازل، ومراحل إعادة التكوين التي أعقبت نكبة المفاصلة..!
هذا الرجل الذي عاش بجوار مفكر وفقيه مجدد، وعقلٍ سياسي خارق، وشخصيةٍ سياسيةٍ وقياديةٍ فريدة، ظل مؤمناً بأن بعض المعرفة تُدفن مع أصحابها، ليس خوفًا بل وفاء. والوفاء هنا ليس لمن لازمه فقط، بل لكل غافلٍ مطمئن كان ضلعاً في حوار، أو طرفاً في موقف، أو بطلاً في حكاية..!
لم يكتب، لم يلمّح، لم يُساوم على ذاكرته، بل عاش ومات وهو يُدرك أن موقع السكرتير ليس منبراً بل مقام أمانة..!
ما لم يقل به – عوض بابكر رحمه الله – هو ما سيُخلد السيرة الباذخة لرجل لم يرَ في قربه من الأحداث التي شهدها مع الشيخ حسن الترابي سلعةً قابلة للبيع، ولم يحول موقعه السابق إلى مشروع لاحق، بتأليف الكتب، أو الحديث عبر برامج الحوار والتوثيق..!
الصدق أحياناً لا يُقاس بما يُقال، بل بما يُحتفظ به، والكرامة أحياناً لا تكون في مواجهة الكاميرات، بل في تجاهلها. ولئن كان السيد عوض بابكر لم يُكرَّم على نُبله بما يكفي في حياته، فقد ارتقى بعد وفاته إلى مُرتقىً أرفع ومقامٍ أندر..!
اللهم ارحمه رحمة واسعة، واكتبه مع الذين أوتوا الأمانة وما بدَّلوا. اللهم اجعل صمته نوراً، وسريرته شهادة، ومقامه في عليين!.
munaabuzaid2@gmail.com