مقال

ملف أكاديميات الطيران في السودان: بحث في خبايا المجهول ( ١ )بقلم: إبراهيم عدلان

في عالم تُدار فيه صناعة الطيران بكفاءة عالية ومعايير صارمة، تظل أكاديميات ومعاهد الطيران في السودان ملفاً مسكوتاً عنه، يدور في فلك الغموض، وتحيط به علامات استفهام لا تنتهي حول جودة التأهيل، والرقابة، والدور الحقيقي الذي تلعبه هذه المؤسسات في رفد القطاع بكوادر مؤهلة.

الأكاديميات: كثرة العدد وغياب التصنيف

شهد السودان في العقدين الأخيرين طفرة في عدد الأكاديميات الخاصة بالطيران، لكن هذه الطفرة لم تُترجم إلى جودة في المخرجات أو التزام بالمعايير الدولية. والسبب الرئيس هو غياب التصنيف الواضح لهذه المؤسسات، سواء من حيث الكفاءة الأكاديمية أو القدرة التشغيلية أو أهلية الطاقم التدريسي.

هل كل من رفع لافتة “أكاديمية” يستحقها؟

الواقع يقول: لا. إلا من رحم ربي فالكثير من هذه الجهات عدا القليل لا تخضع لإشراف دقيق من سلطة الطيران المدني، وبعضها لا يملك منهجاً معتمداً من منظمة الإيكاو (ICAO)، ولا يخضع أساتذتها لتأهيل مهني حقيقي. بل إن بعض “المحاضرين” لم يحصلوا على أي شهادة متقدمة في الطيران!

المخرجات: كفاءات على الورق

الطالب السوداني يجد نفسه في رحلة تعليمية باهظة، يخرج منها بشهادة قد لا تعترف بها جهات التشغيل الكبرى. مئات الخريجين بلا وظائف، وبدون تصنيف عالمي لمؤهلاتهم، بينما تستورد شركات الطيران كفاءات من الخارج، في مفارقة موجعة.

نقاط الضعف الجوهرية
1. غياب الإجازة السنوية للمؤسسات: لا توجد آلية لتجديد الاعتماد سنوياً بناءً على الأداء والجودة.
2. انعدام الفحص النفسي والعقلي للطلاب: لا يُطلب من الطالب المرور باختبارات السلامة العقلية (psychometric tests) رغم أهميتها في المهن الحساسة.
3. عدم إلزامية رخصة سلطة الطيران المدني للمحاضرين: يُدرّس البعض بدون امتلاك رخصة محاضر معتمدة أو حتى خبرة عملية.
4. غياب متطلبات صارمة لضمان الأداء والكفاءة: لا توجد منظومة تضمن الالتزام الفعلي بمؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) للأكاديميات ولا مراجعة دورية لبرامج التدريب ومخرجاتها.
5. الافتقار للضمانات المالية: لا تشترط سلطة الطيران المدني وجود ملاءة مالية أو تأمين مالي للأكاديميات، ما يجعل بعضها عرضة للإفلاس المفاجئ أو العجز عن إكمال برامج التدريب، مما يُعرّض مستقبل الطلاب للخطر.

ما المطلوب؟

من أجل تصحيح المسار، لا بد من:

1. إعادة تصنيف الأكاديميات

تقوم سلطة الطيران المدني بوضع نظام لتصنيف الأكاديميات (A, B, C) بناءً على:
• عدد المدربين المؤهلين
• نوعية البرامج التدريبية و عدد الساعات
• جودة المعامل والأجهزة و الوسائل التعليمية المستخدمة
• نسبة التوظيف بعد التخرج

2. تراخيص سنوية للمؤسسات

يشترط أن تحصل كل أكاديمية على رخصة تشغيل تجدد سنوياً بناءً على تقييم صارم يشمل التدقيق الأكاديمي والفني والإداري، ويُربط بتقارير أدائها السابق.

3. تأهيل المحاضرين

إصدار رخصة محاضر طيران لكل من يدرس في هذه المعاهد، وفقاً لمعايير الإيكاو، وتجديدها كل عامين على الأقل.

4. اختبار السلامة العقلية للطلاب

إلزام كل طالب يرغب في دخول أحد برامج الطيران بالفحص العقلي والذهني لضمان ملاءمته لهذا التخصص عالي الحساسية.

5. إثبات المقدرة المالية كمطلب أساسي

ربط الترخيص بوجود ضمان مالي أو تأمين مهني يغطي مخاطر توقف الأكاديمية أو إخفاقها في إكمال البرنامج، لحماية حقوق الطلاب.

نحو منظومة تعليم طيران محترفة

إذا أردنا أن نبني قطاع طيران سوداني مستقل وفعّال، فلا مفر من إعادة هيكلة منظومة تعليم الطيران. لا يُمكن أن تنهض صناعة الطيران بدون كوادر مدربة بمعايير عالمية، ولا يمكن أن تنتج الأكاديميات الخاصة تلك الكوادر في ظل هذا التسيب، وغياب الرقابة، والتجاهل الكامل للجودة والجدوى المالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *