“سأكتب رواية،وسأسعى لمعرفة كيف تُكنب الروايات”.قرار إتخذه عبدالله حرفش ولقبه فرفار، وهو رجل أمن متقاعد،هو الذي لم يكن قارئاً ولم يقف طيلة حياته أمام مكتبة اللهّم إلا إذا كان في مهمة مراقبة وملاحقة أحد المشبوهين.
حاول بعد تقاعده القسري أن يشغل نفسه في كتابة رواية بعد أن إعتاد كتابة تقارير أمنية على أوراقه الصفراء، ولأجل ذلك دخل عبدالله حرفش لأول مرة المكتبة كقاريء وزبون وتوجه إلى مكتبة “أعلاف”لصاحبها (ر.م.) وقد سُميت بهذا الإسم لإعتقاد صاحبها أن القراءة علف الذهن وان الكتب تشبه العلف للإنسان.
أما الخطوة الثانية،فكانت توجهه إلى مقهى “قصر الجميز” وتقربه من الروائي (أ.ت).ليتعرف منه على كيفية كتابة الرواية بعد ان قرأ له روايته (على سريري ماتت إيفا). وأطلعه أيضا على نماذج عدة بدءاَ بالعمة (ث) وزوجها المدلك، والمشجع الرياضي حفار القبور (ع.د.) وغيرهم من شخوص يرغب في البدء بكتابة روايته من خلال إحدى هذه الشخصيات. وفي نهاية المطاف إستقر به الرأي أن يقدم للروائي محاولته الأولى وهي حكاية زوج عمته المدلك . لكن الروائي لم يعجبه ما كتبه عبدالله حرفش ووجد انها كتبت بلغة التقارير الأمنية التي إعتاد حرفش على كتابتها معللاَ ذلك بأن دودة الخدمة اللعينة لا زالت متحكمة به.
هذه هي الحبكة الرئيسة لرواية ” صائد اليرقات” لمؤلفها الروائي السوداني “الدكتور أمير تاج السر”.والتي من خلالها أتيحت لنا الفرصة للتعرف على طقوس الكتابة من وجهة نظر إحدى الشخصيات وهي الروائي(أ.ت). والتي نتلمس فيها الكثير من شخصية المؤلف نفسه.
في هذه الرواية أرسل الدكتور أمير تاج السر العديد من الرسائل والشيفرات لا بد من التوقف عندها وهي على سبيل المثال لا الحصر:
أ-: ضرورة أن يكون الكاتب – او من يرغب بالكتابة- يمتلك مخيلة تخوله إيهام القاريء بأن ما يقرأه هو الحقيقة بعينها، “فليس كل ما يكتب حقيقة.. توجد حقيقة ويوجد خيال والعمل الناجح هو الذي يوهم القاريء بأن الخيال حقيقة” (صفحة72).
ب- التنبيه من إقدام البعض على إستسهال الكتابة، كعبدالله حرفش الذي يريد كتابة رواية وهو الذي لم يفتح كتابا طيلة حياته، وكأن فعل الكتابة هو مجرد قرار دون الإلتفات إلى ضرورة توفر الموهبة والمقدرة على تطويع اللغة والمزاوجة بين الواقع والخيال، فبالرغم من أن الأفكار موجودة في كل زمان ومكان،ولكن يبقى الرهان على من يريد الكتابة تمتعه بمقدرة على تحويل تلك الأفكارإلى نص متماسك وبأسلوب أدبي، ففي عالم الكتابة وللأسف نجد أن مثل هذه الأفكار غالبا ما تضيع لأنها تقع في أيدي كُتّاب موهومين لا موهوبين(صفحة18).كما حدث مع ” الكاتب الموهوم” عبدالله حرفش والتي جاءت مسودة روايته عن زوج عمته “المدلك”.على شكل تقرير أمني تفتقر إلى مسحة الإبداع الواجب توافرها.
ج – أما في موضوع تقنية الكتابة يقول الروائي(أ.ت).غن أطوار الكتابة بأنها تشبه إلى حد بعيد أطوار نمو الحشرة، فالبيضة تتحول إلى يرقة ثم إلى شرنقة داخل غشاء ثم تخرج من الغشاء لتصبح حشرة كاملة (صفحة85).وهكذا إذا إستطعنا إخراج الفكرة من البيضة واليرقة والشرنقة عندها يمكننا القول أننا أمام نص يمكن تقديمه للقاريء،وإذا لم نفلح بإخراجها نكون أمام حشرة ميتة.
د.- مقابل الإستسهال في دخول عالم الكتابة هناك ظاهرة لا تقل خطورة عنها وهي شيوع الإطراء والمجاملات المبالغ بها من قبل بعض القراء وأدعياء الكتابة تجاه الروائي أو الكاتب ، مثلا نجد الفتاة (س.) لغاية في نفسها تخاطب الروائي (أ.ت) قائلة إن روايتك (على سريري ماتت إيفا)، أعتقد أن الجّن قد شارك في كتابتها وليست رواية بشر. كل هذا الإطراء طمعا بأن تحظى منه كتابة كلمة تقديم لما تحسبه رواية بإسم “لحظة حُب”. وكان لها ما ارادت بالرغم من عدم إقتناعه بروايتها وعدها بأنه سيكتب لها تقديما –ولو بحذر-.لأنه “يعتبر أن الفتيات الجميلات واسعات العيون لا ينطبق عليهن معادلة اطوار الكتابة فيرقة الفتاة تعادل حشرة كاملة وهذا ما يُسمى حسب قوله مؤازرة الجمال” (صفحة85).
ختاما ولإستعادة زمام المبادرة يقوم الروائي (أ.ت) بإصطياد الأفكار المشتتى التي قدمها له عبدالله حرفش على شكل يرقات غير مكتملة ،ليقوم هو بنفسه بكتابة رواية مستوحاة من تلك اليرقات بعنوان ” صائد اليرقات” بعد أن يعيد عبدالله حرفش الى عمله الأساسي كرجل أمن.
رواية صائد اليرقات رواية جديرة بالقراءة ولا شك بأنها تُغتي المكتبة العربية.
عفيف قاووق.
لبنان.