لِلْحَقِيقَةِ لِسَانٌ .. رحمة عبد المنعم يكتب: تحالفُ “تَأْسِيسٍ”… إعلانُ الخيانةِ وتوقيعُ العارِ

في مشهدٍ لا يليقُ حتّى بمسرحِ العبثِ، ظهرَ الطبيبُ علاءُ الدينِ عوضُ نَقْد، المتحدّثُ الرسميُّ باسمِ تجمّعِ المهنيينَ السودانيينَ، وعضوُ قوى الحريةِ والتغيير – المجلسُ المركزي، مُتمايِلًا بينَ مجموعةٍ من “الرُّقّاصينَ السياسيينَ”، مُعلِناً ما سُمِّي بالهيئةِ القياديةِ لِتحالفِ “تأسيسٍ”، فيما بدا وكأنّه مسرحيّةٌ رديئةُ النَّصِّ والإخراجِ، لكنّها خطيرةُ النتائجِ على حاضرِ السودانِ ومستقبلِه.
هذا التحالفُ، الذي نصّبَ المجرمَ محمّدَ حمدانَ دقلو رئيساً، والمتمرّدَ عبدَ العزيزِ الحلو نائباً له، وسمّى نفسَه “تأسيسياً”، لا يحملُ من التأسيسِ إلّا التأسيسَ على الدماءِ، وعلى أنقاضِ الدولةِ، وعلى جثثِ الأبرياءِ. لا تأسيسَ هنا إلّا لِتحالفِ الخيانةِ، الذي ضمّ في صفوفِه من يُفترضُ أنّهم رموزٌ مدنيّةٌ، كعلاء الدين نَقْد، وبرمة ناصر، وإبراهيم الميرغني، الذينَ ارتضَوا أن يضعوا أيديَهم في يدِ قائدِ مليشيا متورّطةٍ في القتلِ والنّهبِ والاغتصابِ، ومتمرِّدٍ لم يتوقّفْ عن تمزيقِ وحدةِ البلادِ وإشعالِ الحرائقِ في الهامشِ والمركزِ على السواءِ.
ما الذي يدفعُ سياسياً مدنياً لأن يرقصَ على إيقاعِ آلةِ الحربِ ويدّعي الحيادَ الكذوبَ؟ وما الذي يجعلُ من رجلٍ طبيبٍ كعلاء الدين نقد، يختارُ الظهورَ في فيديو “مقزّزٍ”، يتراقصُ فيه وكأنّ البلادَ لا تُقصَف، ولا تُغتصب، ولا تجوع، ولا تنهار؟ أهوَ الحنينُ إلى الكرسيِّ؟ أم أنّ الأمرَ ببساطةٍ يتعلّقُ بمن لا يرَونَ في السياسةِ سوى مطيّةٍ لامتيازاتٍ زائلةٍ؟
لقد أسّسوا تحالفَهم في فبراير الماضي، لكنّهم لم ينتظروا طويلًا قبلَ أن يكشفوا عن وجهِهم الحقيقيِّ: دعمٌ للمجرمين، وتواطؤٌ مع قتلةِ الوطنِ، وتبريرٌ ساذجٌ لجريمةٍ كبرى عنوانُها: “الانفتاحُ على كلِّ من يرفضُ السودانَ القديمَ”. عذراً أيُّ سودانٍ قديمٍ تقصدونَ؟ هل هوَ السودانُ الذي كافحَ أهلُه لعقودٍ ضدّ الديكتاتوريةِ والاستبدادِ؟ أم ذاكَ الذي خرجت فيه الثورةُ لتُسقطَ نظامًا عسكرياً استمرَّ ثلاثينَ عاماً؟..السودانُ القديمُ، على عِلّاتِه، لم يكن يحكمُه قادةُ مليشياتٍ يغتصبونَ النساءَ ويشرّدونَ العائلاتِ.
يتحدّثُ بيانُهم عن “السودانِ الجديدِ”، وعن “الحريّةِ والعدالةِ والمساواةِ”، وهم يتحالفونَ مع من دمّرَ الخرطومَ، وأحالَ دارفورَ إلى أرضٍ موحشةٍ، وشرّدَ الملايينَ إلى مصرَ واثيوبيا .. وأبعد،أيُّ مساواةٍ هذهِ التي تقومُ على فوهةِ بندقيةٍ؟ وأيُّ عدالةٍ يصوغُها القتلةُ؟
ويا لِسخريّةِ الأقدارِ، حينَ يأتي بيانُهم ليحمّلَ “النُّخبَ الحاكمةَ والمعارضةَ” مسؤوليّةَ غيابِ الإرادةِ السياسيةِ، والتهرّبَ من معالجةِ الجذورِ التاريخيّةِ للأزمةِ”، وهو يضمُّ بينَ سطورِه رموزَ تلكَ النُّخبِ نفسِها التي لم تعرفْ للسودانِ مشروعاً سوى التنازلاتِ الفارغةِ.
ليسَ تحالفُ “تأسيسٍ” سوى محاولةٍ يائسةٍ لإنقاذِ المليشيا الغارقةِ في دماءِ الأبرياءِ، وخطوةٍ مكشوفةٍ لمنحِها شرعيّةً مزيّفةً بعد أنْ انكشفتْ أمامَ العالمِ، وهو أيضاً حبلُ مشنقةٍ سياسيٍّ لكلِّ من شاركَ فيه، لأنّه سيكونُ وصمةَ عارٍ لا تُمحى من التاريخِ.
ولم يكتفِ هذا التحالفُ بالخيانةِ النظريّةِ، بل سعى – مع مليشيا الجنجويدِ وحركةِ الحلو – إلى تشكيلِ حكومةٍ موازيةٍ في المناطقِ التي يُسيطرونَ عليها، لكنّهم قُوبِلوا برفضٍ قاطعٍ من المجتمعِ الدوليِّ والإقليميِّ على حدٍّ سواء. فقد أصدرت كلٌّ من تركيا ومصر وقطر والمملكة العربية السعودية، وكذلك الأممُ المتحدةُ والاتحادُ الإفريقي، مواقفَ واضحةً حذّرت من خطورةِ قيامِ أيّ حكومةٍ موازيةٍ في السودانِ، لما لذلك من تهديدٍ مباشرٍ لوحدةِ الدولةِ، واستقرارِ الإقليمِ برمّتِه.
ويبقى السؤالُ: أينَ ستُقامُ هذهِ “الحكومةُ” المزعومةُ؟ أفي مناطقِ دارفورَ المكلومةِ؟ أم في أجزاءٍ من كردفانَ التي ترزحُ تحت سيطرةِ المليشيا؟ إنّها ليست سوى سلطةِ ظلٍّ مرتجفةٍ، لن يُكتبَ لها الظهورُ ولا الاعترافُ، لا من الداخلِ ولا من الخارجِ،إنّه تحالفُ الخزي والعمالةِ، تحالفُ من تجاوزهُ ضميرُ الشعبِ، وتنصّلَتْ منه القيمُ، وتبرّأَ منه الوطنُ،تحالفٌ لن يحققَ شيئاً، لأنّ ما بُنِي على الخيانةِ لا يصمدُ، وما تأسّسَ على الدماءِ لا يُثمرُ سلاماً.
يا علاء الدين نقد، لم يكن الأمر مفاجئاً، كما قد يظن البعض، فأنت ومن معك من برمة ناصر وإبراهيم الميرغني وغيركم، قد وضعتم أيديكم في يد الجنجويد منذ بدايات الحرب، ولبستم عباءة “الحياد” زوراً، ثم ما لبثتم أن كشفتم عن انحيازكم الكامل للمليشيا القاتلة، كنتم تدّعون التوازن بينما تصمتون عن المجازر، تتحدثون عن السلام بينما تدافعون عن أمراء الحرب، حتى حانت لحظة إعلان الولاء صراحة، فوق ركام الخرطوم وتحت دخان دارفور. لقد اخترتم موقعكم عن وعي، ولا عزاء لمن باع ضميره بثمن رخيص.
إنّها لحظةٌ سوداءُ في تاريخِ السودانِ… لحظةٌ تحالفَ فيها الخونةُ مع القتلةِ، وتراقصَ فيها بعضُ منْ كانوا يومًا يرفعونَ شعاراتِ الثورةِ على إيقاعِ البنادقِ، وسُمِّي ذلك زوراً وبهتانًا: “تأسيساً”..لكنّ الشعبَ لن ينسى، ولن يغفر،والسودانُ الجديدُ سيُكتَبُ بدماءِ الوطنيينَ الحقيقيينَ، لا برقصةِ عملاءِ المليشيا