
i.imam@outlook.com
تُوفي إلى رحمة الله تعالى، الأستاذ عمر عبد الله محمد خير المدير التجاري لشركة الخطوط الجوية السودانية الأسبق ومدير الموارد البشرية في مركز تلفزيون الشرق الأوسط عند تأسيسه في 18 سبتمبر (أيلول) 1991 بلندن، أمس (الأربعاء) في أحد مستشفيات العاصمة البريطانية، وذلكم تصديقاً لقول الله تعالى: “ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰاتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ”، إذ غيبه الموت عن دنيانا الفانية.
وقد ذهب بعض أهل العلم، من أن القضاء قضاءان قضاء مؤجل (المرض)، وقضاء مبرم (الموت). فقد أدرك القضاء المؤجل (المرض) الأخ عمر عبد الله لفترات، إلى أن أفضى به أمس (الأربعاء) إلى القضاء المبرم (الموت) الذي سيُدركنا لا محالة لاحقاً، حتى ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، مصدقاً لقوله الله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا”. وتأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. وتصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل!
وتذكيراً بقول الشاعر العربي خويلد بن محرث بن سعد بن هذيل، المعروف بأبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارهـا
ألفيـت كـل تميمـةٍ لا تنفعُ ظللنا نردد في كل مراثينا، بعد حرب مليشيا الجنجويد المتمردة، أن الموت لم يعد يُفاجئ السودانيين داخل السودان وخارجه، وإن كان يفجعهم في زمان الناس هذا، مراراً وتكراراً، إذ ينسل من بينهم أخيار أطياب، يعجز الكثير من أحبابهم وأصحابهم وبعض أهليهم عن تشييعهم، وشهود جنائزهم، بسبب أهوال الجنجويد وما أدراك ما الجنجويد! وفي غياهب هذه الظُلمات الجنجويدية، فرَّ أهل السودان من موطنهم -أصحاء ومرضى- فمنهم مَن قضى نحبه -مرضاً وحسرةً-، داخل السودان وخارجه! وأنسل من بيننا أهلون وأصدقاء، ونحن معشر السودانيين بين مرابطٍ في الديار، ومضطرٍ على الفرار! وقد انسل أخيراً من دنياواتنا الأخ عمر عبد الله محمد خير في صمتٍ أليمٍ، وحزنٍ عظيمٍ! إذ كان أبناؤه الأربعة (علي وإبراهيم ومحمد وإسماعيل) يتناوبون متابعته في المستشفى -صباحاً ومساءً- في غير كلل أو ملل. وقد لخص ذلكم كله الابن الأكبر علي في رسالة حزينة مقتضبة تقطر حزناً وألماً، إلى أخيه الأوسط إبراهيم، ناقلاً إليه إدراك القضاء المبرم (الموت) والده في فجر أمس (الأربعاء): “إبراهيم لا داعي لأن تأتي عند الساعة السادسة صباحاً، انتقل الوالد إلى المكان الذي ظل يعمل طيلة حياته للاستقرار فيه”. تنبئ هذه الرسالة أن الابن أراد أن يؤكد أن الأخ عمر عبد الله كان يعمل من أجل يتقبل الله تعالى عمله ويجزيه خير الثواب، ليستقر في نعيم، تصديقاً لقول الله تعالى: “إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ”، وتفسير ذلكم إن الأبرار الذين بَرّوا باتقاء الله وأداء فرائضه، لفي نعيمٍ دائمٍ، لا يزول يوم القيامة، وذلك نعيمهم في الجنان. وأحسبُ أن الابن يُشير في تلكم الرسالة الحزينة المقتضبة أيضاً إلى قول الله تعالى: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”.
عرفت الأخ الراحل عمر عبد الله محمد خير في منتصف الثمانينات عندما كان مديرا للخطوط الجوية السودانية في المملكة المتحدة، وتوثقت علائقي به أكثر فأكثر بالمصاهرة، إذ تزوج ابنه الأصغر الدكتور إسماعيل ابنتي الصغرى آيات. كان مهموماً بالشأن السوداني وتداعيات حرب مليشيا الجنجويد على المواطن والوطن! وغالباً ما كنا ندندن حول هموم وطن السودان والمواطن السوداني. كان الأخ عمر عبد الله -يرحمه الله- مشغولاً بقضايا الحرب في السودان وتداعياتها، وبقضايا إعادة إعمار السودان وتنميته.
عمل الأخ الراحل عمر عبد الله في قطاع الطيران والإعلام لسنواتٍ طوالٍ، إذ أمضى عنفوان شبابه في الطيران، إذ كان من بواكير خريجي جامعة الخرطوم الذين انخرطوا في العمل بالخطوط الجوية السودانية، عبرها جال الكثير من محطاتها في دول العالم، وتدرج في وظائفها، حتى تسنم وظيفة المدير التجاري، وشهد له مرؤوسيه في قطاع الطيران بنبل الخُلق، وطيب المعشر وحُسن المعاملة، عفيف اللسان، نظيف اليد، كريماً سخياً، سمحاً طيباً، نقياً تقياً، لا يحمل في قلبه الضغائن، ومسامحاً لظالميه.
وعندما عمل ضمن مجموعة محددة في تأسيس مركز تلفزيون الشرق الأوسط (MBC) في وظيفة قيادية، عمل جاهداً لمساعدة الكثيرين في التوظيف بتلكم المؤسسة الوليدة، لا سيما أبناء وبنات وطنه السودان، لم يكن يتعالى أو يفرق بين مرؤوسيه، يعاملهم معاملة حسنة، فالدين عنده المعاملة. على الرغم من أنه كان منتظماً تنظيمياً في الحزب الاتحادي الديمقراطي، وقطباً بارزاً في الحزب الاتحادي الديمقراطي في المملكة المتحدة وإيرلندا، ولكنه لم يكن يُضيق على نفسه واسعاً أو ينكفئ على حزبه! بل يُساعد كل من يحتاج مساعدته إذا كان في مقدوره ذلكم.
وكان يرحمه الله يتمتع بسجايا طيبة، وخصال حميدة، كان بحقٍ وحقيقةٍ، سمح الخصال، كثير الوصال، بسام المحيا في كل حينٍ وحالٍ، لا تُمل مجالسه، ولا تُضجر مؤانسته. عاش بيننا متواضعاً، خلوقاً سمحاً.
أخلص في هذه العُجالة الرثائية، إلى أن الراحل الأخ عمر عبد الله محمد خير كان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه وأصدقائه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة من يطلب مساعدته حتى وإن لم يكن يعرفه! فكان الراحل عمر عبد الله من الذين يدركون أن من يفعل الخير لا يعدم جوازيه، تصديقاً لقول الله تعالى: “وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا”، وتأكيداً لقول أَبُي مُلَيْكَة جُرُولْ بْنْ أَوْسْ بْنْ مَالِكْ المعروف باسم الْحُطَيْئَةِ:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العُرف بين الله والناس
وأحسبُ أن الأخ عمر عبد الله -يرحمه الله-، في خدمته للناس ومساعدتهم، وحُسن تعامله معهم، كان يتمثل في نفسه قول الله تعالى: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً”، وكذلك قول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:
الناس للناس مادام الوفاء بهم
والعسر واليسر أوقات وساعات
وأكرم الناس مابين الورى رجل
تُقضي على يده للناس حاجات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر والأيام تارات
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ عمر عبد الله محمد خير قبولاً طيباً حسناً، وينزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، ويدثره بدثار المغفرات، ويُكرم نزله، ويُوسع مدخله، ويُغسله بالماء والثلج والبرد، ويُنقه من خطاياه كما يُنقى الثوب الأبيض من الخطايا والدنس، ويُعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ويُلهم آله وذويه وأهليه جميعاً وأصدقاءه وزملاءه ومعارفه وعارفي فضله الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سَارِقُ دَقَّ شَخْصُهُ
يَصُولُ بِلاَ كَفَّ وَيَسْعَى بلا رِجْلِ.
ولنستذكر في هذا الصدد أيضاً، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين”.