*”كل ما هنالك أنك تُعطي نفسك مكانةً زائفة، من يَهتم لأمرِك أيها الأحمق، كم من أمثالك مَرُّوا في هذه الدنيا” ..عزيز نيسين ..!*
من وجوه المِنَح التي نشأت في طي مِحَن هذه الحرب اقتناع معظم الأسر السودانية بضرورة اختصار طقوس ومراسم الزواج، لدواعي الأزمة الاقتصادية التي أقَضَّتْ مضاجع الشعب السوداني جراء حملات السطو المسلح التي شَنَّتْهَا مليشيا الدعم السريع على كافة أمواله وممتلكاتته بدعوى محاربة الكيزان..!
أما في سودان ما قبل الحرب فقد كانت المصائب التي تتَربَّصُ بكل شابٍّ تُسول له نفسه أن يعلن شروعه في دخول مؤسسة الزواج مُرعبة حقاً..!
بدءاً بالمهر والشيلة وتكاليف الولائم الباهظة، ومروراَ بحُمَّى التَطلُّب والتَزيُّد والدلال – التي تصيب فتاة أحلامه في هذه المرحلة من العلاقة تحديداً – والتي تقتضي معالجتها بعض الاستجابات العاطفية المُتهورة المُفضية بدورها إلى حُمَّى من نوع آخر تصيب جيب العريس بعجز في الميزانية لا يُرجى شفاؤه..!
وانتهاءً بتحول الهمس إلى شخير وتمدد الملل على أريكة الشغف “الليلة خدرة وبكرة بامية” ومن ثَم تدشين تحول الطرفين تحت مسمى الأسرة الجديدة إلى ترسٍ بائس في آلة العادات الجائرة، والتقاليد القاصمة للظهر، إلى آخر تلك المُنمنمات البليدة والفسيفسائيات الباعثة على الضجر. وأخيراً، ها نحن هنا، و”قبيل شِن قُلنا” ..!
المشكلة – بطبيعة الحال – ليست في مؤسسة الزواج على إطلاقها، بل في الداخلين إليها والخارجين عليها والمقيمين فيها، والمتفرجين الذي يحشرون أنوفهم في مجريات أشواط مبارياتها بدعوى أنهم يشجعون “اللعبة الحلوة”..!
المشكلة في ذلك القالب العرفي الكئيب الذي تواضعنا نحن – كمجتمع – على أن نحشر فيه تلك العلاقة الرائعة المقدسة، أن نخنق أنفاسها بحجة الواجب والمفروض والملعون والمرفوض..!
طموح الحبيبات المُتَطلِّبات هو الوجه الآخر لتاريخ ديون الأسرة، والدليل على ذلك أن قيمة القربان – كسبب رئيس للقبول أو الرفض – بقيت حاضرة على مر العصور كلما تقدم رجل للزواج من امرأة، منذ عهد قابيل وهابيل وحتى آخر زيجة قبل نهاية التاريخ ..!
بعض الأضابير تنص على أن المعاملة بالديون قد نشأت في عصر الفراعنة والسومريين، عندما كان ميزان العدالة وقتها في أيدي النساء، وهو أمر يظهر جلياً في معظم الحفريات والصور والنقوش القديمة التي تؤكد أن مآسي أبطال الأساطير اليونانية وقعت حينما كان ميزان العدالة ـ أيضاً ـ في أيدي النساء ..!
وفي الأدب العالمي شواهد كثيرة تشد من أزر هذا المعنى، فلولا إصرار بسانيو على الزواج من بورشيا ابنة الدوق بالمونت في مسرحية “تاجر البندقية” لشكسبير، لما اضطر صديقه انطونيو لاقتراض المال من المرابي شايلوك، ولولا لعنة جوليا زميلته في العمل، لما تعرض سميث بطل رواية “1984” لجورج أورويل للعقاب بدلاً عنها ..!
ولولا “ركزة” العاشق” في حضرة البت سعاد، أيقونة المرأة الحلم في رائعة عمر الطيب الدوش، ولولا إصرار البت سعاد نفسها على ازدراء الخاطب الذي لا يملك من أسباب سعة العيش ما يؤهله للصمود تحت سياط الأزمات الاقتصادية، لما أصبحت الأقساط هي الوجه الآخر لسعة العيش في السودان ..!
هي – على كل حال – محض افتراضات لا ترتقي لمراتب القناعة بشأن ظواهر قَوَّضَتها ظروف هذه الحرب التي كانت ثمناً باهظاً لتَحَلِّي معظم السودانيين بالقدر اللازم من الواقعية ..!
لكن بعيداً عن مبدأ السببية، وبعيداً عن تورط المرأة في “تأنيث الإعسار”، تبقى الديون التي ينتجها نزوعنا الدائم نحو “البوبار” – في مجتمع محدود الإنتاج كثير الإستهلاك – هي القاسم المشترك الوحيد والطريف في علاقة الغني بالفقير..!
مع فارق بسيط، سهل، ممتنع، مفاده أن الأول يتفنن في إغراقها، بينما الثاني يبقى غارقاً فيها ..!
munaabuzaid2@gmail.com