في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتخذ العالم توجه جديد نهضت فيه سياسة فرض النفوذ للسيطرة على الموارد كبديل للاستعمار التقليدي. ومنذ أن نالت دول أفريقيا استقلالها بدأت تأسيس نفسها دستورياً بتراضي شعبها حول تعريف الدولة، عناصرها، مواردها، هويتها ونظام حكمها.
من رحم هذا التراضي تأسست دول، واستقرت ونمت وازدهرت ولحقت بركب التطور والبناء.
لكن السودان استمر على نهج المستعمر، وهو النهج الأحادي الصفوي النخبوي، وهو أشبه بفكرة ( الرسن )؛ بعض ممسك بالرسن والآخرون يتبعونه.
فهذا النهج تم رفضه منذ فترة الاستعمار وهو السبب الرئيسي لمطلب الاستقلال، وظل الرفض مستمر حتى انتهى بإقامة دولة مستقلة في جنوب السودان، والآن يتواصل الرفض والمقاومة في الشرق والغرب.
هذا النهج كان ولا يزال من الممكن جداً تفاديه، بسياسات بسيطة للغاية وهو أن نتراضى جميعاً حول حوار دستوري وطني حقيقي لا يستثني أحداً.
الدعوة إلى ضرورة مشاركة الجميع؛ لا تزال مرفوضة من قبل بعض اصدقائنا الذين تشاركنا وإياهم في تأسيس تحالف إسقاط نظام البشير، حيث كان رفضهم لمبدأ توسيع قاعدة المشاركة ومراعاة التنوع بمثابة رسم خارطة الوصول إلى نقطة الخامس عشر من أبريل المشؤوم الذي جاء نتيجة طبيعية لكل الفعل السياسي الذي سبق إن كان بدراية أو بغير دراية وبمشاركة فاعلة من المجتمع الدولي.
بداية الحرب فعلاً كانت في الخامس من ديسمبر ٢٠٢٢ حينما تسيدت البعثات الدبلوماسية الفعل الوطني.
لقد ظللنا ممسكين بعهدنا الموثوق ومبادئنا وخطنا الاستراتيجي بضرورة الانفتاح مع الجميع طالما جميعنا ننتمي لهذه البلاد، حفاظا على وحدتنا الوطنية التي ظللنا ننادي ونعمل لأجلها.
لكن دهشتنا كانت كبيرة حين وضعت أمامنا صنوفاً شتى من العراقيل من قِبل من كانوا معنا ولم يدُر في خلدنا أن القناعات الراسخة يمكن أن تتبدل كما تتبدل الملابس، لقد فتتوا مقولة ( الحريه لنا ولسوانا) ومحوا المبادئ التي كتبوها بأيديهم عبر حقب تاريخية متصلة ابتداء من التجمع الوطني الديمقراطي، الجبهة الثورية، الإجماع الوطني، الفجر الجديد، نداء السودان.
وأخيرا الحرية والتغيير التي تبنت ميثاق نداء السودان حرفياً،
قبل الانقلاب الذي حدث في داخل الحرية والتغيير في يوم 12 أبريل 2019، عقب سقوط البشير مباشرة، فعادت حليمة إلى فعلتها الذميمة بعد أن شرعنوا شعارات الانفراد بالسلطة، فهرولوا مسرعين للتحالف مع العسكر بشقيهم الجيش والدعم السريع دونما أدني مستوى تشاور مع رفاق الأمس.
الدافع الخفي لهذه الهرولة هو العقل السياسي الباطني، بأن يجعل الجيش حرساً لحكمهم اليافع ويجعل الدعم السريع كلب صيد في الخلاء يسد لهم باب دخول الحركات التي يرونها رموزاً للهامش.
لقد صرح أحد كبار قادتهم بالمجلس المركزي في لقاء جمع بهم بالوسيط والعسكر، حين عبر أحد العساكر بأن البلاد لا تحتمل حرباً أخرى لذلك واجبنا الإسراع في توقيع السلام مع الحركات بغية تفادي ذلك، فرد هذا الكبير قائلاً: إذا عجزتم عن قتالهم سلمونا العسكر والسلاح، وسنتولى قتالهم.
هو ذات النهج الذي حوّل ثورة اكتوبر 1964 واعاد عقارب ساعة الشعب للوراء وكذلك في أبريل 1985 وهكذا تحوّل الاستقلال إلى استغلال .
إذاً لماذا نُصر على حوار لا يستثني أحدا؟
هناك جماعات وقوى تقليدية وحديثة ومنظمات وشخصيات وطنية تقف بعيداً الآن في مقاعد المتفرجين؛ مهنيون، رعاة ومزارعين وحرفيون، لاجئون ونازحون ريفيون ومدنيون، جميعهم يجب أن يُسمع صوتهم ويقرروا في مصير هذه البلاد مثل غيرهم، وإلا فإننا موعودون بنتائج مشوهة بعد وقف الحرب.
صكوك الوطنية..من يملك حق توزيعها؟
الإجابة القطعية هي لا يوجد من يملك هذا الحق، لكن بتنا نرى غير ذلك، فهناك من يزعم أنه وكيل توزيع صكوك الوطنية، حتى أصبحت هذه المسألة مسار جدل لا ينقطع ولا تحتاج منّا إلى مزيد من الجدل.
من المؤكد الوقت لازال مناسباً بأن نفتح صدورنا ونمد أيادينا لبعضنا البعض في سبيل وحدة ماتبقى من وطن، وإلا فنحن على مشارف مرحلة تاريخية سنرى فيها بلادناً ممزقة قطعاً قطعا، دعونا ننبذ تلك الأصوات التي ترمي لإبعاد هذا وذاك، دعونا نشجع الأصوات الداعية للملمة شتات البلاد، لنتفادى الوقوع في مملكة الفوضى التي ذكرها الروائي الإنجليزي William Golden في روايته مملكة الذباب kingdom of the flies , تلك الامبراطورية التي انتهت بفوضى عارمة نتيجة غياب عمداء الأسر.