كان حاضرًا بيننا بالأمس القريب الصديق الشهيد عبد الفتاح حاج عتمان كرتى ، حيث كان يملأ الدنيا حياة وحيوية وحلاوة، الا ان تصاريف الاقدار واحكام الحياة ومشيئة الخالق التي لا راد لها جعلت منه اليوم صورة حزينة وذكري أليمة ، أذ فجعت القلوب برحيله ،وحزنت النفوس باستشهاده، فوداعاً يا شهيد ،وداعاً يا حبيب ،وداعاً يا صديق، وداعاً أيها البطل الأبي المقدام .
استشهد عبد الفتاح دفاعاً عن كرامته وبيته وعرضه وأرضه ، وجسد استشهاده مقولة (خلف كل بطل عظيم أبطال ) هذه المقولة تجسدت بالتمام والكمال علي الشهيد عبد الفتاح حاج عثمان كرتي وعلي أهله الكرام الذين رغم فداحة المصاب ،وفجيعة الرحيل ،ومصيبة الموت ، وقفوا وقفة عز وايمان وفخر باستشهاد ابنهم عبد الفتاح .وقفوا وقفة رجولية لم يزعزعها زلزال الألم على الفراق الحزين المفاجئ وقالو قولتهم المشهورة ” كلنا للوطن فداء ” ومن هنا اكتشفنا من أين يأتي مثل هؤلاء الابطال الأشاوس الذين يقدمون ارواحهم ودماءهم فداء للوطن ودفاعاً عن الأرض والعرض .قال لي واحد من إخوانه وانا أقدم لهم التعازي وأواسيهم:” يا حاتم نحن اصبحت امنيتنا ان نري الجيش السوداني منتصراً اذ لا جيش يعني لا وطن”. اهله فخورون به لانه رحل شهيداً من أجل الوطن في ساحة الحرب ولكنهم عاضبون اشد الغضب علي من كسر حلم فتاح وأنهي حياته ويتمنون أن لا يذهب دم عبد الفتاح ودماء الشهداء هدراً وسدي.واللافت ان افراد اسرة الفقيد الصغيرة والممتدة والعائلة كلها ،توشحوا بالصبر والثبات عندما عرفوا نبأ استشهاده،فالبرغم من مرارة الغدر وهول المفاجئة وألم الفراق الا ان الاسرة قابلت الأمر بمنتهي الرضاء وبالفخر والعزة كون ان ابنهم عبدالفتاح استشهد واقفًا غير راكع ومقبلًا غير مدبر فسلام الله عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا .
تعود معرفتي بالشهيد عبد الفتاح منذ ان تزاملنا طيلة سنوات الدراسة في مراحلها المختلفة ما بين البساير وحجر العسل حيث مسقط الرأس وديار الاهل والعشيرة ومهد الصبا ومراتع الشباب قضينا فيها سنوات طويلة وجميلة حيث كنا ابناء دفعة واحدة وان باعدت المدارس المسافات بيننا، الا ان بانقا المحطة جمعتنا في عهدها الزاهر عندما كانت مركزا لامتحانات الشهادة، نلتقي في مدرستها ويلتئم شملنا في داخلياتها لعدة أيام وليالي تربط بيننا الألفة وتحفنا الصداقة وتغمرنا المودة ونستغرق وقتًا جميلا في سوق المحطة العامر ونغشي المطاعم والمقاهي وتكتمل المتعة بمشاهدة لحظات دخول القطار لمحطة بانقا واوقات مغادرته. أما في مرحلة الدراسة الثانوية فقد جري توزيع الشهيد في شندي الثانوية وذهبت انا للدامر الثانوية وكنا نحرص علي المرور بشندي ونحن في طريقنا الي الدامر ونقضي فيها ايام وليالي مع الاصدقاء والزملاء في ربوع شندي وداخلية مدرستها التي تضاهي احسن الفنادق .ولم ينقطع التواصل بيننا الي ان جمعتنا الخرطوم خلال سنوات الدراسة الجامعية وكنا خلال تلك الحقبة معا لا نفترق و معنا الصديق عطا الجميعابي .ويا لها من سنوات كان فيها عبد الفتاح احسن الزملاء خلقاً واخلاقاً، تسامحاً واستقامة، كان شديد الحماسة والاندفاع ،لما يؤمن به وكنا نطلب منه التريث وتوخي الحذر، وكان يرد علينا ان الانسان لن يموت قبل يومه مستشهدا بالقصيدة التي تقول : “إما حياة تسر الصديق… أو ممات يغيظ العدى “.
عندما نقل لنا نبأ استشهاد الصديق العزيز عبد الفتاح كرتي بكينا علي فراقه دما لا دمعاً، ومر بخاطري شريط طويل من الذكريات ، تذكرت ضحكاته، قفشاته، كلامه، اسلوبه واحلامه التي كان يسعي لتحقيها . وانا استرجع شريط الذكريات الطويل شعرت بدفئ الاماكن والاوقات التي قضيناها سوياً ايام الشباب حيث كنا نقضي جزء من ساعات النهار في سوق بحري ثم ندلف راجلين للمقيل في حلة خوجلي حيث دائرة السيد علي الميرغني ومنزل الخليفة الراحل عمر السنجك نطهو وجبة الغداء بما حملته أكياس الورق من سوق بحري حسب ما جادت به ميزانية ذلك اليوم ، وكان برنامجنا في الغالب الأعم يشتمل علي بعض أنس أخوي ومذاكرة شيء من الدروس ثم نضع برنامج المساء والسهرة .
توقفت عند بعض المحطات علها تجلب شئيا من السلوي والسلوان بدأتها بسوق الخرطوم بحري حيث دكاكين ومحلات الكروتة وموقف الحاج يوسف حيث ملتقي الصديق عطا الجميعابي وكشك الليمون في شارع المزاد ومحلات الكبدة والفول المصلح الذي كان ملتزما بسداد فاتورته عطا الجميعابي.
و امتد التواصل بيننا خارج السودان حيث التقينا في مدينة جدة أتاها عبدالفتاح مغتربا وقدمت اليها انا معارضا .كان يأتيني بسيارته في عمائر الميرغني بشارع الملك خالد ونذهب سويًا الي كافتريا في حي الكندرة القديم .سألته مرة قائلا:” يا صديقي لماذا تغترب وانت سليل عائلة مشهود لها بالثراء والغني ؟” فأجابني مبتسماً بثقة وتواضع :”يا حاتم انت مثل ابراهيم اخوي لذالك سوف اكون صريحًا معك:” انا مبدئي في هذه الحياة يقوم علي الاعتماد علي الذات والنفس وعدم الركون للأسرة او الاعتماد علي العائلة لان المرء من يقول هأنذا وانا اريد ان اقول ها انا ذا ولهذا السبب هاجرت واغتربت” سألته ايضاً :”لكن يا فتاح انتو محسوبين علي هذه الحكومة وبعض أهلك جزء من مؤساسات السلطة التي نعمل نحن علي معارضتها ونسعي لتغييرها فأخشي ان يؤثر ذلك علي مستقبل علاقتنا ” فاجابني بوضوح وشجاعة :”يا صديقي انت تعلم ان والدي عليه رحمة الله كان من خلفاء مولانا السيد على الميرغني وانا شخصياً ليس لي علاقة تنظيمية تربطني بالانقاذ او حزبها ولكني ايدتها لاسباب وطنية بحتة ” وعاتبني علي عدم التواصل والانقطاع خلال الفترة الماضية وقال لي ان ما يجمع بيننا أكبر من ما يفرقنا وينبغي الا يفرقنا اختلاف الاراء والاتجاهات.
كان عبدالفتاح اجتماعيًا من طراز فريد جعل من مكتبه مستقراً وملتقي للاصدقاء والزملاء والمعارف .اعتدت ان اغشاه وامر عليه في طريقي للخرطوم او عند عودتي لبحري .وكان من ضمن رواده الفريق أول البرهان قبل ان يصبح رئيساً فهو زميل دراسة بشندي الثانوية .وكان مشهودًا لعبد الفتاح انه يغرق ضيوفه بكرمه الفياض.
وكان إلهامًا إلهيا أن أراه لآخر مرة في يناير ٢٠٢٣ قبل سفري الحالي للقاهرة حيث مررت عليه في المحل وكعادته أصر علي اصرارا شديدا ان افطر معه واخيرا جبرت بخاطره وتناولت كوبا من الشاي وقلت له انا علي موعد مع مولانا الخليفة مجذوب السني امام حديقة عبود ولا اريد ان أتأخر عليه ،ولو كنت أعلم بأنه لقاء الوداع الأخير لمكثت معه حتي لو أدي ذلك لعدم لحاقي لرحلة الطيران للقاهرة.
كان الفقيد دائما يطمئننا ويعدنا خيرا وبرحيله يزداد حزننا بأننا لن نسمع بعد اليوم مزاحه ولن ننعم بخفة ظله ونعاهده اننا لن ننسي خوته وصداقته وشهامته وشجاعته وايثاره وتواضعه وسوف تبقي ذكراه راسخة في الفؤاد و الاذهان وتجري مجري الدم في الشرايين وسوف تبقي انت فينا يا فتاح. نسأل الله تعالي ان يغفر له ويرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى، ويلهم أهله وذويه واصدقائه ومعارفه الصبر والسلوان، والعزاء لابنائه ياسر ،مجتبي وأيمن ولاخوانه صديق ،ابراهيم،عبدالرحيم،حاتم ،علي،
أسعد،محمد،مصطفي. إنّا لله وإنّا إليه راجعون .
اترك رد