بعث لي إبننا الحبيب الإعلامي الألمعي مصعب محمود برسالة تنقل خبر وفاة الحاجة حياة البرير مقدما لها بأنها شقيقة الحاج معاوية البرير، وكالعهد به مصعب دائما أموره مرتبة، ورسائله مفصلة، ومعلوماته دقيقة، فأرسل مع الخبر وصف منزل العزاء، وموقعه علي الخريطة، وشكرته علي الخبر المهم رغم وقعه الأليم، وهو لم يكن يعلم أني أعرف الحاجة حياة قبل أن نعرف الحاج معاوية بكثير، بل قبل أن يكون معاوية شيئا مذكورا، فصلتنا بها يرحمها الله تعود إلى نحو نصف قرن من الزمان، وهي من صلتنا بابنها صديقنا الحبيب مامون مجذوب علي حسيب، وبيتها كان من بيوت أم درمان المميزات، فرعم حالة الثراء الظاهرة، ووسائل المتعة والرفاه التي يكتظ بها، لكنه كان متاحا للجميع، وكان كل شئ فيه متاح لنا نحن أصحاب وزملاء وأصدقاء مامون، وكنا نجد راحتنا عندها أكثر مما نجدها مما نجدها في كثير من بيوت أهلنا، فلما سري نبأ وفاتها تسابق أولاد أم درمان، وكان يعزي بعضهم بعضا، صلاح وقيع الله كردمان، وسارية مكي عمر الإمام، ومعاوية إسماعيل مكي، وطارق زيادة، والشيخ الأمين عمر الأمين، وآخرون كثر، فلما أخبرت الأخ محمد حسين الخضر بنيتي الكتابة عن فقيدتنا الغالية الحاجة حياة محمد أحمد البرير، سألني إن كنت قد قرأت ما كتبه الأخ المحبوب عبد السلام، فتوقعت أن يكون مقاله قد نشره الأخ مجدي عبد العزيز في صحيفته الإلكترونية ذائعة الصيت “الرواية الأولى” فهو الأولى بذلك، ليس لقربه من المحبوب فقط، ولكنه الأقرب سكنا إلى منزل مولانا مجذوب علي حسيب، وزوجته الحاجة حياة البرير يرحمهما الله تعالي، وكان ممن يتاح لهم الدخول في اي ساعة من ليل أو نهار، وله أن يدخل من أي باب شاء، فطلبت منه أن يرسل لي المقال، ففعل، فلما قرأته تذكرت قصة حكاها لي وجيه الكاملين صديقنا حافظ بشير حسنين، فروي حافظ قصة رجل سوداني كانت له زوجتان واحدة أجنبية، والثانية بنت عمه، فلما توفي لرحمة مولاه، تحزمت ابنة عمه، وظلت تجوب البيت تعدد محاسن زوجها، وتحكي فجيعتها، فلما شاهدتها الزوجة الأجنبية، تحزمت مثلها، وسارت خلفها، تلك تعدد، والأجنبية خلفها تقول “وأنا كدي” فلما قرأت مقال محبوب الذي كفي فيه ووفي، قلت “وأنا كدي” وهذا ما كتب المحبوب عبد السلام المحبوب
“حياة البرير”
ودعت أمدرمان باكية أمسية الأحد الثانى من رمضان الجارى السيدة حياة محمد أحمد البرير وأودعتها ثرى البكرى حيث سبقها سلفٌ صالح أخذت عنهم الكثير ثم أعطت فكأنها فرغت تماماً للعطاء، تعطى بسخاء مدهش ولا تكاد تأخذ شيئاً. ثم هى كأنما لقيت شهر رمضان المبارك ليلةً واحدة حياها وودعته إذ كان الشهر الذى يزيد فيه سخاءها فيغدو ريحاً مرسلاً حيث أصاب، تأتى بيتها بحى الملازمين من أمدرمان فى رمضان فتجد أعداداً بالداخل وأرتالاً بالخارج من أهل الحاجات، أو هى فى نهار غائظ وليلً بهيم تزرع شوارع المدينة تصل آخرين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا تكاد تميز فى عطاءها بين قريب وبعيد متى علمت بعسرته وحاجته، ولا يكاد يعرف أحد عن مشاويرها فى العطاء حتى أبناءها وبناتها إلا إذا سألوا الذى تعهد بصحبتها فى السيارة أو اذا تحسسوا من كلامها وهى ترتب الحساب وتعد الجراب. فلو أدركت السيدة حياة زمن تنظيم عمل الخير لأضحت مؤسسة مثل موسسة الحريرى فى لبنان وأشباهها فى سائر العالم، ولكنها من نفسها غدت مؤسسة وحدها كأنها رجالٌ كثير ونساء.
ولدت حياة البرير لوالدٍ ثري من أعمدة الاقتصاد السودانى وحكيم مشهور بالكلمة الفصل فى أكثر القضايا الاجتماعية حساسيةً، فورثت عنه الحكمة والصمود وكانت شديدة الاعتزاز به وأنها كبرى بناته نشأت وقد نثر بين قدميها الدر النفيس، ولكنها كذلك شديدة الاعتزاز أنها لم تركن الى حياة العز والترف ولكنها إختارت من نفسها كذلك أن تكون باذلةً بانيةً قدر الله لها أن ترتبط فى رفقة العمر بأحد أعمدة القانون والقضاء السيد مجذوب على حسيب، وأن تقطع معه رحلةً أخرى شاقةً من البذل والعطاء. تقول السيدة حياة البرير أنها أنجبت تسعة من البنين والبنات ولكن كان ميلادهم في تسعة مدن من مدن السودان، ولو أرادت أن تجلس فى مرابع الأهل وتغدو الى المستشفيات الحديثة التى عمرت بها مدينتها الأم منذئذ لفعلت، ولكنها لم ترضى أن تفارق زوجها وتتركه وحده يجوب الحوافى والأطراف يفتح المحاكم ويرسى القانون والنظام. كانت تقول أولئك رجال بنوا البلاد، لا تفهم البناء إلا وهو النظام والادارة وحكم القانون، كما تذكر فى اعتزاز أنهم كثيراً ما راودوه ليترك القضاء ويدلف الى السياسة وهو إبن عشيرة وسجادة له دائرة مضمونة من وهج نار المجاذيب ولكن عندما دعته نفسه الى المجد زجرها وثابر على مهنة البناء، يجوب الوديان وينزل الوهاد على ظهور البغال والحمير وهى معه، لا تعوزه الحاجة الى أن يصرف وقتاً فى سؤال عن طعام او شراب أو لباس فقد قد هيأت كل شئ لينصرف بتمامه للعمل، حتى أقلام الرصاص تتعدها بالمبراة وحتى الدفاتر والأوراق، فإذا عاد الى منزل القاضى المقيم فى المدينة تبدلت الحياة، ترتبت الصفر والموائد ووضعت الأطباق وزودت بالشوك والسكاكين والمناديل، فالسيدة حياة البرير من ذلك الجيل الذى أخذ جوهر التدبير والنظام من الوافدين المتحضرين ومزجه بأفضل ما عندنا من أصالة فكانت فى بيتها وطعامها وزينتها من ذلك النسيج الفريد، لا تستشعر غربة أبداً فى نسقها وترتيبها ولا تلقى الفوضى الريفية المزعجة بل تجد الوضاءة والجمال حيثما تلفت، قد تجد أحدث الأثاث ولكن سيكون هنالك عنقريب من خشب الصنت أو السريرة وقد تجد شراباً كثيراً ولكن سيكون من بينه الأبرى والحلو مر وقد تجد أطباق الاتراك والفرنسيين والايطاليين ولكن ستجد كسرة كأنها طرزت من وشاحٍ أبيض وستجد الفول المدمس وبلح القنديلة. سألت إبنها الصديق مامون هل يعرف مولانا مجذوب على حسيب أن يأكل بيديه؟ فضحك من سؤالى وذكرنى أليس هو ابن قرية؟، فكم يثير ذلك الجيل العجيب من الأسئلة وقد تشرب تلك الثقافة على مهل ومزجها بأصالته لا فى الازياء والأشكال وحسب ولكن حتى فى الثقافة والنظم والتشريع.
وكما قدمت السيدة حياة البرير وجيلها نماذج فى البذل والعطاء قدموا مثالاً فى الأخلاق، فقد عاصرت زماناً ماج بالأحداث والمواقف والقصص والحكايات، وكنا كثيراً ما نسألها عن تفاصيله ونترجاها فى المزيد، ولكنها كانت سخيةً اذا تعلق الأمر بالمعرفة المفيدة شحيحةً ماسكةً اذا تطرق الأمر لأعراض الناس وأسرارهم الخاصة، قد تحكى لك بسخاء عن نبوغ إبن خالتها معاوية محمد نور وترحاله وعودته وموته المبكر المأساوى، ولكنها لا تتجاوب مع شقفك وأنت تسألها عن القضايا الكبيرة التى هزت مجتمع المدينة ونظر فيها زوجها قاضياً وحاكماً أو محامياً فى الفصل الأخير من حياته، ولكنها تذكرك بالمرافعة التى سارت بها الركبان والان تدرس فى كليات القانون ولا تحيلك الى قصص المدينة وشائعاتها، واذا الححت عليها بالقصص والاقوال تختم بكلمتها التى كأنما جمعت تمام الحكمة والاخلاق: نعم قالوا نبرى من قولهم، تعنى أنها تبرأ الى الله من الخوض فى سير الناس حتى بالرواية والاسناد الى غيرها.
كانت السيدة حياة البرير من أعمدة العقاب كما نقول فى السودان ، القلة الذين اسحفظوا على أفضل ما عندنا ومهما تفرغ الناس وشتوا بقوا مع هذا العقاب لا يبرحونه بالهجرة والاغتراب، بل يتعهدونه بتمام الرعاية حتى اذا عاد العائدون وجدوه كما هو او يزيد، بل إن صروف الحياة داخل الوطن ما تفتأ تتقلب وتتبدل وتهز الاوتاد بالزعازع ولكنهم يظلون كما هم لا يبدلون أخلاقهم ولا يهملون أشكالهم، فالحياة ينبغى ان تمضي بافضل وجه وان تقاوم الآفات ما ظهر منها وما بطن، او كما يقول الفرنسيون مثل كريم الكرمل دائماً هو هو فى حلاوة وطلاوة، فلقد قست الحياة على السيدة حياة البرير ففقدت إبنها على وقد أكمل لتوه رسالته فى الدكتوراة بجامعة جورج تاون وسقط مغشيا عليه فى المكتبة ليفارق الحياة وهو يتأهب للعودة الى السودان فتلقته جثمان مسجيً فى تابوت، ولكنها صبرت وثابرت ورددت كلمتها التى سبقت اليها فى وفاة زوجها : لقد نفذ أمر الله والدنيا تنتظر الرجال)، تعنى بالرجولة قيم الصبر الجميل والبلاء الحسن والاستئناف الكريم.
رحم الله السيدة حياة البرير فقد تجلت حكمتها وأخلاقها وأكملت واجبها فى الحياة على أفضل وجه، وتركت من بعدها ثلة من الأبناء والبنات ربتهم على الاستقامة والاستقلال ولم تقهرهم على طريقة او مهنة او مذهب فكان كل منهم نسيج وحده، فمن اى باب دخلت وجدت متعةً ومعنى وقد أرست على رأس قيمها أن يكون بيتها قبلةً للزائرين من الأهل والأصدقاء وذوى الحاجات، ورغم مرضها وضعف بصرها فقد ظلت حريصةً على مصحفها يضعف بصرها فتكبر معه أحجام المصاحف ولكنها لا تفارقه ولا تهجر تلاوته تقول أنها تحفظ به نفسها وبيتها.
لا أحسب اني انتظمت فى زيارة بيت كما انتظمت فى زيارة بيت السيدة حياة البرير لا استشعر غربةً اذا وجدت أهله أو بعضهم أو أحد منهم ولقد أحزنني ألا أشيع جثمانها ولا أقف على قبرها فهرعت لا أكتب مقالاً ولكنى أعزى نفسي، وقد كان كذلك مأتمها قبلة توافد عليه الجميع حتى سدت مداخل حى الملازمين وقد كانت بارةً بالقريب والبعيد فائضة فى المجاملة بوقتها ومالها.
نيروبى : ٦ أبريل ٢٠٢٢
اترك رد