
لم تكن الزيارة إلى السودان زيارة عابرة، ولا كانت رحلة مكتوبة على ورق السفريات، ولا كانت تلك الإقامة التي يحصيها الإنسان بعدد الليالي والمغادرة في لحظةٍ لا تعود بشيء سوى التذكار.
لقد كان السودان شيئًا آخر.
كان امتحانًا للروح، وامتحانًا للذاكرة، وامتحانًا لِما تعنيه كلمة شعب حين تتجلى بلا رتوش، وبلا تمثيل، وبلا أقنعة.
دخلت السودان كما يدخل إنسان إلى تاريخ سبق ميلاده.
كنتُ أمشي على خطٍ واسعٍ من حكاياتٍ عتيقة، من ممالكٍ كانت هنا قبل أن يوضع أول مصطلح للسياسة، وقبل أن تُكتب الخرائط وتباع البلدان في المزادات.
وأنا، حين وقفت في حضرة هذا الموقف، شعرت أنني لستُ زائرًا…كنتُ واحدًا ممن عاشوا في هذا التاريخ من قبل…ربما كنتُ على ضفاف النيل الأزرق جنديًا يحمل رمحًا، أو كنتُ رجلاً من أهل دارفور يرعى قطيعًا فوق السهول، أو كنتُ من أهل أمدرمان أفتِّش عن الحرف الذي يكتب المقاومة في الهواء
أعرف الشعوب….سافرت، ورأيت مدنًا تعلَّمت أن تبتسم من شفاهها لا من قلوبها. ..رأيت بلدانًا تصافحك بأصابعٍ باردة، كأنها تشكرك لأنك سترحل بعد قليل.
لكن شعب السودان…
هذا الشعب الذي إذا قال لك: يا زول صار الأمر أعمق من اللغة….هذه الكلمة ليست كلمة. إنها امتداد للتاريخ كله.
إنها عضلة في القلب تنبض.
رأيت رجالاً بسطاء من رعاة الإبل في الشرق، وطلابًا في الجامعات يرفعون أصواتهم بالهتاف، وعمالًا في الأسواق يقطعون أرغفة الخبز ويقسمونها معك دون أن يسألوا من أنت.
رأيت النساء يحملن البيوت فوق أكتافهن، وهن يضحكن،
كأن العالم لم ينكسر قط.
رأيت العيون.
والعيون لا تكذب.
الإنسان هنا لا يحتاج إلى لقب.
لا يحتاج إلى بطاقة تعريف.
هو معروف بملامحه وحدها.
بالأثر الذي يتركه،
بالاحترام الذي يصنعه حين يمر،
وبالكرامة التي تجلس على كتفيه مثل نسر يحرس الجبل.
رأيت جيشيا سودانيا يقاتل ببساله ومن الظلم أن تُختزل الجيوش في أرقام، وفي البيانات الصحفية، وفي التقارير العسكرية التي تخرج من غرفٍ مغلقة.
والجيش السوداني ليس فرقةً عسكرية..ليس مؤسسة..إنه تاريخ….إنه النيل عندما يرتفع ويغمر اليابسة، والصحراء عندما تقرر أن تكون وطنًا أو مقبرة والصمود حين لا يبقى في العالم شيء يستحق الصمود لأجله.
وفي السودان رأيت ذات المؤامرة التي تعبث في بلدي اليمن …ولا أحد يحتاج أن يشرح لك المؤامرة في السودان….يكفي أن ترى الخرائط….يكفي أن تنظر إلى موقع السودان على البحر، على النهر، على الذهب، على الطرق المؤدية إلى قلب إفريقيا.
وفي السودان رأيت قيادة تلتحم بالشعب
المشهد سياسيًا هنا.
لم يكن سردًا كالموجود في كتب العلوم السياسية.
كان اصطفافًا أخلاقيًا.
رأيت كيف يلتقي صوت القيادة مع نبرة الشارع،
كيف يلتقي القرار مع ضربات الطبول،
كيف يصبح البيان العسكري جزءًا من الأغنية الشعبية.
لا شيء أعظم من هذا التماهي:
أن يشعر الناس أن من يقودهم،
لا يقف فوقهم،
ولا خلفهم،
بل بينهم.
هذا ما جعل المعركة غير متكافئة.
وهذا ما جعل الكلمة في السودان سيفًا.
وجعل السيف روحًا.
وجعل الروح وطنًا.
آلاف الرسائل من رجالٍ ونساءٍ وشبابٍ وشيوخٍ…
من الخرطوم، ومن عطبرة، ومن مدني، ومن دارفور، ومن كسلا، ومن القضارف، ومن بورتسودان،
كلّهم يقولون بلهجةٍ واحدةٍ لا يخطئها القلب:
«تعال تِشرب الشاي عندنا»
«البيت بيتك»
«نحن في انتظارك».
ليعذرني كلُّ من لم أستطع الردَّ على رسالته،
فقد كانت الرسائل أكثر من أن تُعدّ، وأجمل من أن تُنسى.
كلّ رسالةٍ وصلتني كانت كفنجان قهوةٍ قُدّم بمحبة، وككلمةِ ترحيبٍ خرجت من قلبٍ يعرف قدر الضيف.
كنتُ أقرأ وأبتسم، وأشعر أني أمشي بينكم بيتًا بيتًا، ووجهًا وجهًا،
ألمس طيبتكم من بين السطور، وأسمع دفء أصواتكم من خلف الشاشات.
كلمة أخيرة:
إن كان ثمة من كلمة تختزل هذا الشعور كلّه، وتلملم ما تفرّق من الحنين والعرفان،
فلتكن لذلك القائد الذي هو أكبر من أن تختزله الأسماء،
ذلك الذي يشبه جبلًا من الصمود إذا اشتدّت الرياح،
ويشبه وطنًا من المحبة حين تميل القلوب إلى التعب.
يمضي بثقةٍ لا تصخب، ويقف بثباتٍ لا يتفاخر،
رجلٌ لا يتكلّم كثيرًا، لكنه حين يتكلّم
تشعر أن خلف صوته تاريخًا طويلًا من الوفاء للأرض وللناس.
كان هو ذاته. القائد عبد الفتاح البرهان،
رأيت فيه ما يُطمئن الجندي، ويُسكن روع الأم، ويُعيد للبلاد ملامحها الأصيلة.
رأيته يسير في طرقٍ يعرفها الشعب،
ويصافح من دون وسائط،
ويحمل على كتفيه ما تحمله الأوطان من أعباءٍ وصبرٍ وتحدٍّ.
بخجلٍ شديد، وبعرفانٍ أكبر من الكلمات،
أهديه محبّتي،
وأهدي شعب السودان سلامي،
سلامًا بحجم هذا القلب العظيم الذي وسعني ضيفًا،
وبحجم تلك الأرواح التي لا تعرف إلا العطاء.
سلامٌ عليك أيها القائد،
وسلامٌ على هذا الشعب الذي ينهض في كل مرةٍ كأنه يولد من جديد.
سلامٌ على السودان…
بلدٌ لا يودّع، بل يُخلَّد في القلب.
الان وأنا اودع السودان
يا الله…
كيف يمكن لمن رأى ما رأيت أن ينسى؟
كيف ينسى الإنسان شعبًا يشبه الضلوع التي تحمي القلب؟
كيف ينسى رجلاً في السوق يقسم الرغيف نصفين ويعطيك النصف الأكبر؟
كيف ينسى جنديًا يقف على الرصيف وينظر إلى الوطن كأنه ينظر إلى قبر أخيه؟
لم أغادر السودان.
والله لم أغادره.
الذي يغادر هو الجسد فقط.
أما الروح،
فقد بقيت هناك…
سأعود.
لا بد أن أعود.
فالذي خرج من السودان
لم يخرج منه كاملًا.
تركت هناك جزءًا مني،
وسآتي لأخذه يومًا.
أو ربما لا آخذه،
وأبقى جزءًا منكم إلى آخر العمر.
سلامًا عليكِ يا سودان.
سلامًا على شعبك.
سلامًا على جيشك.
على قيادتكم العظيمة











