
*”في المسافة الفاصلة بين الحرب والسلام هناك دوماً سطر غامض ما في برقيةٍ ما”.. الكاتبة..!
جاء في أخبار يوم أمس أن السيد رئيس الوزراء كامل إدريس قد بعث برقية شكر لنظيره المصري، واصفاً زيارته للقاهرة بالناجحة بكل المقاييس. لا بد أن هذه الجملة قد استوقفتك، وربما توقعت أن يكون نجاح الزيارة من عدمه هو الموضوع الرئيس لهذا المقال..!
لكن ربما لأنني أشعر اليوم ببعض السأم – الذي أعاد ترتيب أولويات اهتماماتي من جسد المعنى إلى ثوب اللغة – أثارت اهتمامي كلمة “برقية” وانا اتخيل موظفاً صارم السمات يطرق على مفاتيح مورس..!
أعلم أن المقصود بالبرقية هو رسالة رسمية بصيغة برقية أتم إرسالها بوسائل حديثة، لكن الإصرار على التمسك بالمفردة في مختلف المحافل والمناسبات الدولية استوقفني. ربما بقيت مفردة برقية لأنها تبدو أرفع قدراً وأكثر وقارا. من “إيميل”، أو رسالة مكتوبة عبر الواتس آب..!
برقية الدكتور كامل إدريس كانت التحية والمجاملة بكلام الخير والإيمان، لكن في خلايا مخي الرمادية – كما يقول هيركيول بوارو بطل روايات أجاثا كريستي البوليسية – حكاية بعض البرقيات الدبلوماسية التي غيرت مجرى التاريخ..!
البشر كما تعلم لا يحتاجون إلى خطب مطولة كي يتقاتلوا، بل تكفي جملة قصيرة، تصل في لحظة ما يكون فيها الجميع على حافة الجنون..!
برقية إيمز التي أرسلها بسمارك كتقرير عن لقاء الملك البروسي السفير الفرنسي، قام فيها بتحريف الحقيقة والتلاعب بالصياغة، وتم نشر البرقية بالصحف فاشتعلت المشاعر الوطنية في فرنسا وألمانيا. وكانت النتيجة اندلاع الحرب الفرنسية البروسية التي انتهت بتوحيد ألمانيا تحت حكم بسمارك نفسه..!
وقد دخلت أمريكا الحرب ضد ألمانيا بسبب برقية بعث بها وزير خارجية ألمانيا إلى الحكومة المكسيكية، يعرض عليها التحالف ضد أمريكا إذا دخلت الحرب العالمية الأولى، لكن اعتراض البرقية من قبل البريطانيين، ونشرها هو الذي دفع أمريكا لدخول الحرب ضد ألمانيا..!
وبعد ذلك أكثر من قرن ونصف من الزمان أرسلت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية برقية إلى القيادة العامة للقوات المسلحة السورية برقية من كلمة واحدة. هي “نفذ”،وكانت تلك الكلمة هي إشارة بدء الهجوم المشترك على إسرائيل..!
وقبل التنفيذ بشهور كان السادات والأسد يرسلان إلى موسكو برقيات “اللا حرب واللا سلم”، وهي صياغات دبلوماسية غامضة كانت تجمع بين السعي للسلام والتحضير للحرب. وقد أربكت تلك البرقيات المخابرات الإسرائيلية والأمريكية، وساهمت في نجاح عنصر المفاجأة في حرب أكتوبر..!
وفي مطلع التسعينيات، أثناء احتلال الكويت أرسلت القيادة العسكرية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى القوات في الخليج إشارة بدء الهجوم البري لتحرير الكويت، فكانت عملية عاصفة الصحراء التي أنهت احتلال العراق للكويت، وغيرت ميزان القوى في المنطقة..!
في اعتقادي أن البرقيات لا تُقاس بكلماتها، بل بمدى اقتراب العالم – وقت وصولها – من حافة الانفجار. فكل ما يحتاجه التاريخ لينقلب أحياناً هو “نفذ” واحدة، أو جملة عادية تخرج من سياقها المألوف لكي تكتب سياقاً جديداً!.
munaabuzaid2@gmail.com











