شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب: السودان: من الركام إلى التخيل.. العقد الاجتماعي الجديد يبدأ بمشاركة السكان المحليين

Ghariba2013@gmail.com
يواجه السودان اليوم، بعد ويلات الحرب المدمرة، تحدياً وجودياً لا يقتصر على إعادة بناء ما تهدم من مبانٍ وبُنى تحتية فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة بناء الثقة، وإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وصياغة “عقد اجتماعي جديد” يضمن الاستدامة والسلام. إنّ مفتاح هذا التحول يكمن في إحياء مفهوم المشاركة المجتمعية الفاعلة وتحويله من شعار نظري إلى منهج عملي في كافة مراحل إعادة الإعمار والتخطيط الحضري، لا سيما في العاصمة الخرطوم.
عادةً ما تعتمد عمليات التخطيط الحضري في الدول النامية، والسودان ليست استثناءً، على “التخطيط الفوقي” (Top-Down Planning)، حيث تُتخذ القرارات وتُرسم المخططات في مكاتب النخبة والمتخصصين، بمعزل عن واقع وحاجات السكان المتأثرين. هذا النهج أثبت فشله في تحقيق الاستدامة والقبول المجتمعي، ويُؤدي إلى ظهور “متلازمة الوسط المفقود” (The Missing Middle Syndrome). هذه المتلازمة تشير إلى غياب أو ضعف هياكل التخطيط والمبادرات الوسيطة التي تربط بين الخطط الكلية للدولة والاحتياجات المحلية للسكان على مستوى الأحياء والقرى. ببساطة، لا يجد المواطن مساحةً حقيقيةً للمشاركة في تصميم مصيره ومحيطه.
وفي سياق الخرطوم، فإنّ الافتقار إلى المشاركة في المخططات الحضرية قبل الحرب كان سبباً في تفاقم مشكلة العشوائيات وتدهور البيئة الحضرية، مما يُحتم عدم تكرار هذا الخطأ القاتل في مرحلة ما بعد النزاع.
إنّ عملية إعادة الإعمار تتطلب اليوم تكامل المعرفة والاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في تحويل التحديات الحضرية إلى فرص للتنمية المستدامة، فتُقدم اليابان، خاصةً في تعاملها مع إزالة العشوائيات وإعادة التخطيط بعد الكوارث، نموذجاً متقدماً في المشاركة. لم يقتصر الأمر على الاستعانة بآراء السكان المستقبليين فحسب، بل شملت التجربة إشراك الفئات الأكثر إهمالاً في العادة، مثل الأطفال، عبر استخدام الخرائط الإدراكية (Cognitive Maps). هذه الخرائط، التي يرسمها الأطفال لمدنهم، تُقدم رؤى غير تقليدية وعميقة حول البيئة الحضرية المستخدمة فعلياً، لا المخططة نظرياً. كذلك، فإنّ آراء الشباب حول “الخرطوم في عيونهم برؤية بيئية” يجب أن تُشكل حجر الزاوية، فهم القوة الدافعة للمستقبل وهم من سيواجه تحديات التغيرات المناخية.
على الصعيد العربي، تُقدم منظومة “حياة كريمة” المصرية، الرامية لتنظيم العشوائيات وتطوير القرى، نموذجاً يُركز على التنمية الشاملة والارتقاء بالبنية التحتية والخدمات. ورغم التحديات، فإنّ هذا المشروع يُشير إلى أهمية التخطيط المُركز على الفجوات التنموية والمُوجه نحو تحسين نوعية حياة السكان الأكثر احتياجاً، مع إتاحة آليات للتفاعل المجتمعي.
يتجلى المفهوم الأعمق للمشاركة في “مشروع النموذج العربي للحوكمة والمشاركة في تصميم الناس لمدنهم”. هذا النموذج يُركز على المفهوم التشاركي لـ “صناعة المكان الحضري” (Placemaking). المكان الحضري ليس مجرد فراغ هندسي، بل هو نتاج التفاعل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للسكان. لا يمكن التخطيط لمكان “يُشعر بالانتماء” إلا إذا شارك سكانها في تصميمه وتحديد وظائفه وجمالياته. هنا تتحول سلطة التخطيط من الدولة إلى شراكة بين الدولة والمجتمع.
إنّ المجتمعات السودانية، بعد النزاع، لا تنتظر خطط الدولة الرسمية؛ بل شرعت في إعادة بناء حياتها ومنازلها من تلقاء نفسها، وهو ما يُعرف بالانتقال “من منطق البقاء لمنطق التخطيط”. هذه المبادرات المحلية العفوية لإعادة الإعمار هي كنز معرفي واجتماعي لا يجب تجاهله، بل يجب احتضانه وتوجيهه وتوفير الدعم التقني له.
إنّ التحدي الحقيقي ليس فقط “إعادة الإعمار” (Reconstruction)، بل هو “إعادة التخيل” (Re-Imagination)، وإعادة الإعمار تعني ترميم الأسقف والجدران المتصدعة، وإعادة التخيل تعني بناء مدن ومجتمعات أفضل مما كانت عليه، مدن تُراعي العدالة البيئية والاجتماعية، وتُؤسس لعقد اجتماعي جديد قوامه الشراكة والثقة.
لتحقيق ذلك، يجب على السودان تبني نهجاً يرتكز على “البناء من أجل الناس” (Building for People) عبر المشاركة المُنظمة بإنشاء هيئات تخطيط محلية على مستوى الأحياء والمناطق، تُمثل جميع الفئات الاجتماعية (النساء، الشباب، كبار السن، المتضررون) وتمتلك صلاحية إبداء الرأي في المخططات، بجانب استخدام التقنية وتوظيف الأدوات الرقمية و الجغرافية (GIS) لتمكين السكان من إبداء آرائهم وتحديد احتياجاتهم بشكل دقيق وتشاركي.
الاستثمار في المبادرات الأهلية بدعم وتوجيه المبادرات المجتمعية التي بدأت بالفعل في إعادة الإعمار، بدلاً من إعاقتها بالتخطيط المركزي، وتكامل المعرفة بدمج المعرفة الأكاديمية والتقنية مع المعرفة المحلية والخبرات الحياتية للسكان.
إنّ الطريق نحو سودان مُتعافٍ يبدأ بالاعتراف بأنّ الناس هم المهندسون الحقيقيون لمدنهم. إذا أردنا بناء مدن تليق بآمال وتطلعات السودانيين، فعلينا أن نُشركهم في وضع حجر الأساس لكل قرار تخطيطي، ليكون هذا هو العقد الاجتماعي الجديد الذي ينقل السودان من فضاء الأزمة إلى آفاق التنمية والتخيل.









