الأخبار

رحمة عبد المنعم يكتب: قطار العودة… البكاء على رصيف رمسيس

في قلب القاهرة، كان صباح أمس الاثنين مختلفاً تماماً، إذ انطلق من محطة رمسيس القطار “مخصوص رقم 1940ثالثة مكيفة”،ممتلئاً بألف سوداني شدّوا الرحيل إلى الوطن، لكنه لم يكن مجرد قطار يحمل المسافرين، بل كان قصيدة حنين تمشي على قضبان الذكرى، ونشيد كرامة صاغته دموع الأمهات وصبر الآباء، وقراراً جمعته عزيمة الرجال ومشاعر النساء.
رأيت القطار يتحرك ببطء، كأنه يوقظ فينا ذاكرة الغياب الطويل، ويستنهض في القلب كل الأغنيات التي نسجها السودانيون عن القطارات،تهامس الواقفون على الرصيف، كأنما يستدعون شريطاً من الزمن، حين صدح أحدهم بصوت خافت:*أحمد الله الخاطري أنجبر..جاني زولاً شايل خبرقال لي محبوبك في القطر*…
في لحظة كهذه، لم يكن هناك “محبوب” واحد في القطار، بل ألف محبوب… ألف قلب سوداني يعود إلى تراب بلاده مثقلاً بالشوق، محمولاً بالأمل، محاطاّ بنظرات وداع دافئة، وابتسامات عالقة بين الرجاء والخوف، لم تكن هذه الرحلة عادية، بل كانت أول تفويج من نوعه عبر السكك الحديدية ضمن المرحلة الثانية لمشروع العودة الطوعية، الذي تنفذه منظومة الصناعات الدفاعية بإيمان لا يُشترى، وجهد لا يُقاس.
منذ انطلاق المشروع، وحتى هذه اللحظة، سيّرت المنظومة أكثر من 204 رحلة، حملت معها آلاف السودانيين من محطات اللجوء نحو حضن الوطن.،خلف هذا الجهد الهائل، يقف رجل آمن أن “العودة” ليست جغرافيا فقط، بل كرامة تُستعاد وحق لا يسقط بالتقادم،الفريق أول ميرغني إدريس سليمان، المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية، لم يكتفِ بالتوجيهات ولا بالتصريحات، بل تحرّك على الأرض، وجعل من المستحيل ممكناً، ومن الفكرة واقعاً..
ومع هذه العودة، لا يمكن للعين أن تتجاهل حضور الأستاذة أميمة عبد الله، مديرة إدارة المسؤولية المجتمعية بالمنظومة، رأيتها على رصيف رمسيس تحاول أن تغالب دموعها، فلم تكن فقط مسؤولة تؤدي مهامها، بل إنسانة تنبض بالعاطفة، وروائية تعرف كيف تكتب الألم في صمت، وتقرأ الفرح في عيون الآخرين،كانت دموعها، بصمتها، تقول: “*ها هو الوطن يلوّح لكم من بعيد… عودوا إليه بسلام”*..
وزّعت المنظومة كابات تحمل عبارة “شكراً مصر”، وطبعت الكلمات نفسها على تذاكر القطار، لم تكن تلك لفتة رمزية، بل اعترافًا أصيلاً بفضل من احتضننا في ساعة المحنة، وفتح لنا أبواب المدن والقلوب معاً، وبين لحظة وأخرى، تسرّبت إلى جو القطار همسات وأغنيات قديمة تعلّق بها السودانيون في الشتات، كما علّقوا قلوبهم في الوطن ..شاب في العشرينات، وقف عند النافذة، وهمس وكأنه يخاطب نفسه:”*قطار الشوق متين ترحل تودينا..نزور بلدًا حنان أهلا ترسى هناك ترسينا*..
وفي زاوية أخرى، كانت عيون دامعة تهمس بصوت الغياب:”*لما القطار صفر شالو..دموعي من عيني سالو..يا ربي طاريني في بالو*”…
لم يكن “المحبوب” في تلك الأغنيات إلا الوطن ذاته… ذلك الذي انتظرهم بصبر النيل ولهفة الجبال، وصمت الصحارى،هذا القطار، وإن كان الأول من نوعه، فلن يكون الأخير، لأن من يقود هذا المشروع يؤمن أن لا أحد يجب أن يُترك في الغربة، وأن قطارات الشوق، وإن تأخرت، يجب أن تصل… ولو بعد حين..لذلك، حين صفّر القطار بالأمس، بكى البعض، وابتسم البعض، لكن الجميع كان يدرك أن تلك الصفارة لم تكن إعلان رحيل…بل كانت إيذاناً بالعودة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *