المقالات

شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب: رحلة المانجو السودانية بين الوفرة والتحديات

Ghariba2013@gmail.com

يحتفل العالم بيوم المانجو العالمي، هذه الفاكهة الاستوائية التي ترمز إلى الوفرة والنماء، وتُعد مصدر دخل رئيسي لملايين المزارعين حول العالم. وبينما تحتفي بعض الدول بوفرة محاصيلها وقدرتها على تصدير المانجو إلى كل حدب وصوب، يواجه مزارعو السودان واقعًا مريرًا يحول دون وصول “ملك الفاكهة” إلى مستحقيه، على الرغم من أن بلادهم تحتل المرتبة الثانية عربيًا في إنتاجه.
يُعد السودان، بما يمتلكه من أراضٍ زراعية شاسعة ومناخ ملائم، أحد أكبر منتجي المانجو في المنطقة العربية، بإنتاج سنوي يناهز 705.7 ألف طن. هذه الكميات الهائلة من المانجو لا تمثل مجرد أرقام في إحصائيات الإنتاج، بل هي شريان حياة لمئات الآلاف من الأسر السودانية التي تعتمد على الزراعة كمصدر دخل رئيسي، وخاصة زراعة المانجو التي أصبحت مصدرًا أساسيًا للرزق منذ حوالي تسع سنوات في ولايات مثل الجزيرة.
لكن المأساة تكمن في أن هذا الإنتاج الوفير، والذي وصفه أحد المزارعين في جزيرة مساوي بـ “الكثير للغاية” في السنتين الأخيرتين، يتعرض للتلف بكميات هائلة. فالحرب المستمرة في السودان، والتي لم تكتفِ بزعزعة استقرار البلاد بل امتد أثرها إلى القطاع الزراعي، قد شلت حركة النقل والتسويق. المانجو، هذه الفاكهة سريعة التلف، لا يمكنها أن تنتظر في الحقول أو مراكز التجميع بينما تتدهور حالتها ببطء.
الشكاوى المتزايدة من المزارعين، كما ورد في التقارير المحلية من جزيرة مساوي، تسلط الضوء على حجم الكارثة. فبينما يعاني السكان في مدن مثل كسلا والقضارف ومدني من نقص الغذاء وارتفاع الأسعار، تترنح أطنان المانجو الفاسدة في أماكن لا تصل إليها أيدي المحتاجين. تكمن المشكلة في شقين رئيسيين: أزمة النقل فتشكل صعوبة نقل المحصول من مناطق الإنتاج إلى الأسواق المحلية الكبرى عائقًا لا يمكن التغلب عليه في ظل الظروف الأمنية المتدهورة. الطرق غير آمنة، والبنية التحتية مدمرة، مما يجعل حركة الشاحنات محفوفة بالمخاطر وتكاليفها باهظة، ونقص التخزين والكهرباء، ففي بلد يعاني من أزمة كهرباء حادة، يصبح تخزين المحاصيل الطازجة أمرًا مستحيلاً. فغياب المبردات الكافية يعني أن المانجو، بمجرد قطفها، تبدأ رحلة التلف السريع، مما يحرم المزارعين من فرصة تمديد عمر المحصول وتسويقه تدريجيًا.
تداعيات الحرب لم تقتصر على حركة التجارة فحسب، بل امتدت لتطال الغطاء النباتي نفسه. فقد كشفت تحليلات صور الأقمار الصناعية عن تدهور كبير في الغطاء النباتي في أكبر ست مزارع بالعاصمة الخرطوم خلال السنوات الأربع الماضية، مما يشير إلى تراجع كبير في صحة وكثافة المناطق الخضراء. هذا التدهور ليس مجرد مؤشر بيئي، بل هو إنذار بمستقبل زراعي قاتم، ينعكس سلبًا على الأمن الغذائي للبلاد.
ومع اقتراب موسم زراعة الحبوب الرئيسي، تحذر منظمات الأمم المتحدة، مثل الفاو واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، من خطر المجاعة الوشيك في السودان. فالصراع المسلح يحرم المزارعين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، مما يهدد بانهيار أكبر في الإنتاج الغذائي. الأرقام مخيفة: أكثر من 750 ألف شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و25.6 مليون شخص يواجهون مستويات خطيرة من الجوع.
رغم هذه الصورة القاتمة، فإن صرخات المزارعين اليائسة تحمل في طياتها بصيص أمل. أمل في أن تتوقف الحرب، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها، لتزدهر الأرض مرة أخرى، وتعود المانجو السودانية إلى الأسواق، وتصل إلى كل بيت، لتكون رمزًا للوفرة لا للخسارة. يوم المانجو العالمي هذا العام يمر على السودان بثقل كبير، لكنه يذكرنا بأن دعم الزراعة والمزارعين في هذا البلد المنكوب ليس مجرد مساعدة اقتصادية، بل هو استثمار في مستقبل أمة بأكملها.
تتركز جهود المنظمات الدولية في السودان على الأمن الغذائي ودعم سبل العيش، خاصة في ظل الأزمة الراهنة. ورغم أن الدعم قد لا يستهدف زراعة المانجو تحديدًا في كل مرة، إلا أنه يصب في مصلحة المزارعين والقطاع الزراعي بشكل عام. من أبرز هذه المنظمات، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو – FAO)، التي اطلقت حملات واسعة لتوزيع البذور الطارئة والمدخلات الزراعية، تستهدف ملايين الأسر الزراعية في 17 ولاية سودانية. هذا يضمن أن يتمكن المزارعون من زراعة محاصيلهم الأساسية حتى في ظروف النزاع.
تجري الفاو تقارير دورية لتقييم الوضع الغذائي وإنتاج الحبوب، مما يساعد في تحديد المناطق الأكثر احتياجًا وتوجيه المساعدات بشكل فعال، وتعمل على مشاريع تهدف إلى تعزيز توظيف الشباب والأمن الغذائي، خاصة في المناطق المتأثرة بالنزاع، من خلال توفير الدعم الفني واللوجستي، وتتعاون مع وزارة الزراعة السودانية لتوزيع تقاوي محسنة لصغار المزارعين، بهدف زيادة الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
برنامج الأغذية العالمي (WFP) يقدم مساعدات غذائية منقذة للحياة للمتضررين من النزاع، وهذا يساعد على تخفيف الضغط على الأسر وتوفير الغذاء الأساسي، كما يعمل البرنامج على تحسين هوامش ربح المزارعين من خلال مساعدتهم على تخزين المحاصيل بشكل آمن وبيعها في السوق. كما يشجع القطاع الخاص على توفير أكياس التخزين المحكمة بأسعار معقولة لتقليل الفاقد، ويطلق مبادرات لدعم القدرة على الصمود في وجه الأزمات، بما في ذلك دعم المزارعين لزراعة محاصيل متنوعة وتحسين ممارسات الزراعة لمواجهة التغيرات المناخية، ويتعاون مع البنك الأفريقي للتنمية لتعزيز إنتاج القمح في السودان، مما يساهم في سد الفجوة الغذائية.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف – UNICEF) تركز على مكافحة سوء التغذية لدى الأطفال، وخاصة في مناطق الأزمات، من خلال برامج التغذية والمساعدة النقدية للأسر الأكثر ضعفًا، وتتعاون في برامج مشتركة لتعزيز المرونة والتماسك الاجتماعي في مناطق مثل دارفور، مما يؤثر بشكل إيجابي على المجتمعات المحلية والمزارعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *