المقالات

بينما يمضي الوقت..(عندك خت..) فالننهض ليقف الوطن .. أمل أبوالقاسم

عندك (خت ما عندك شيل) عبارة سارت بها الألسن لفترة إبان اعتصام شباب الثورة أمام القيادة، ولست بحاجة لتوضيح تلك الصور التي علقت بذاكرة كل متابع لما كان يجري وقتها، دون الخوض في تفاصيلها ومآلاتها.

ربما كان الشباب وقتها يتمثلون قيمنا السمحة في دعم بعضنا البعض، وهي نزعة متجذرة فينا لا ولن تقتلعها أي رياح، مهما كان هوجها. راودتني العبارة حين تواصلت معي زميلة دراسة جامعية لم تكن تسبقنا فقط في احتلال المرتبة الأولى، التي لم تتنازل عنها حتى تخرجنا، بل كانت سباقة لفعل الخير، وإشاعة التسامح وروح التكافل بيننا. فكنا دوماً، وبحب كبير، لا نفتأ عن جمع التبرعات لأي حدث: فرح أو ترح أو حتى ترويح، وما أكثر الأخير، ونحن نبدد به وحشة داخليات حنتوب الطرفية.

المهم أن هذه الزميلة، لم تتخلَّ عن عادتها السمحة تلك، وأظنها طيلة فترة تخرجنا ظلت تمشي بها بين الناس. بيد أن مبادرتها الأخيرة تتفوق على ما سواها، كونها جاءت في أحلك الظروف.

راسلتني د. عزة محمد موسى، تطلب دعماً لم تحدده (وإن كان جنيهًا واحدًا)، لإعادة تأثيث مكاتب جامعة الجزيرة بالحصاحيصا بعد أن طالتها أيادي المليشيا، كحالها في كل مكان وطأته أقدامها النجسة.

مبادرة عزة حملت عنوان “عليك كرسي من بعض الخريجين والمنسوبين والمحبين الحنان…”، استهدفت بها خريجي ومنسوبي ومحبي جامعة الجزيرة، وربما جيرانها وأسرتها. وبحسب القائمة التي بعثت بها لاحقًا، فقد أُنجز الأمر في أيام قليلة، لتسابق الكثيرين للحاق بهذا العمل الطيب، وبينهم من تبرع بمجموعة كراسٍ صدقةً لروح ذوي قربى.

هذه الواقعة ليست نادرة في سودان اليوم، فرغم أن الحرب لم تدمر كل المدن، إلا أن مؤسسات كثيرة توقفت، وتعطلت عجلة الحياة وتحتاج منا ان (نخت قرش على قرش عشان يشيل ) منه الآخر وابناؤنا عبر موارد عدة.

ما يحدث اليوم في بعض مدن السودان لا يُقاس بحجم المال أو نوعية الأثاث، بل بروح الناس. ولا بد من “اجتهادات فردية” تنبع من إيمان داخلي بأن الترميم لا يعني فقط إعادة الطوب، بل ترميم المعنى والمستقبل.

زميلتي التي قررت ان تفتح مكاتب كليتها بمساعدة أصدقائها، ربما لم تكن تنوي إطلاق “مبادرة عامة”، لكنها فعلت ما يشبه ذلك وأكثر، فقد قدّمت درسًا عمليًا في أن إعادة الإعمار تبدأ من الأفراد، لا من المؤتمرات.

ليست القضية في “ماذا نملك؟” بل في “ماذا نفعل بما نملك؟”.

ما نحتاجه الآن هو أن نكرّم هذه الروح، ونضخّم هذا الصوت، ونعترف بأن كثيرًا من المرافق والمؤسسات التي ما زالت تعمل – وإن بجهد متواضع – تحتاج منا نفيرًا بما تيسّر، وألا نركن للاستسلام في انتظار الحكومة التي تواجه تحديات جمّة، بل أن نسأل أنفسنا: “ما الذي يمكننا فعله نحن؟”

نعلم أن إعادة بناء السودان لن تتم دفعة واحدة، ولا عبر “مشروع ضخم ممول”، بل عبر آلاف الأفعال الصغيرة التي تصدر من قلوب كبيرة، مثل ما فعلته زميلتي. لن يكتب التاريخ كل الأسماء، لكن الأثر سيبقى. فالوطن لا يبنيه من يملكون أكثر، بل من يبادرون أولًا.

ذيلت د. عزة رسالتها المطولة عقب التبرعات التي انهالت بعبارة:
“نقف جميعًا لتجلس كلية التربية الحصاحيصا.”
وأكرر: نقف جميعًا ليجلس كل طلاب الجامعات والمدارس.
وأقول: فلنجلس جميعًا على طاولة حوار روحي ووجداني، ليقف الوطن.

ودعوني أستشهد بأبيات الشاعر السوداني مبارك المغربي:

> ما بصح وطريقنا باين
يا شبابنا نقيف نعاين
الأمل معقود علينا
والعمل ظمآن إلينا
بي سواعدنا ونضالنا
في جنوبنا وفي شمالنا
غيرنا مين يحرث أرضنا
يبني ويعمر بلدنا
غيرنا مين يفني الأعادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *