شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب: دعوة عاجلة: ضمان عودة العمل البرلماني السوداني بعد توقف الحرب

Ghariba2013@gmail.com
يصادف اليوم الدولي للعمل البرلماني مناسبة للتأكيد على الدور الحيوي الذي تلعبه البرلمانات في تعزيز الديمقراطية، سيادة القانون، وحقوق الإنسان. فالبقاء على اتصال مع ناخبيهم، وسن القوانين، ومراقبة عمل الحكومة، تُعد هذه المؤسسات الدعامة الأساسية للحكم الرشيد. ولكن في السودان، حيث لا تزال البلاد تتعافى من صراعات مدمرة، فإن الحاجة إلى استئناف العمل البرلماني لم تكن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
إن عودة المجلس الوطني السوداني لممارسة نشاطه وسلطاته التشريعية ليست مجرد مسألة شكلية، بل هي خطوة أساسية نحو استعادة الاستقرار والشرعية في البلاد. فغياب هيئة تشريعية منتخبة وفاعلة يترك فراغًا كبيرًا في الحوكمة، مما يعيق عملية إعادة الإعمار ويقوض ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية.
يُعدّ استئناف العمل البرلماني ضرورة قصوى من اجل الشرعية والمساءلة، فيُضفي المجلس الوطني الشرعية على القرارات الحكومية ويُمكن المواطنين من مساءلة المسؤولين. فغيابه يُمكن أن يُفضي إلى حوكمة غير خاضعة للرقابة ويُقلل من الشفافية، فبعد فترة من الصراع، يحتاج السودان إلى إطار قانوني قوي لدعم جهود إعادة الإعمار، ومعالجة قضايا العدالة الانتقالية، ووضع أسس التنمية المستدامة. لا يُمكن تحقيق ذلك بفعالية إلا من خلال هيئة تشريعية قادرة على سن وتعديل القوانين.
يُمثل البرلمان صوت الشعب، ويضمن أن تُؤخذ آراء واحتياجات مختلف الشرائح المجتمعية في الاعتبار عند صياغة السياسات. في ظل غياب التمثيل البرلماني، تخاطر الحكومة بالابتعاد عن تطلعات مواطنيها، ويُمكن للمجلس الوطني أن يلعب دورًا حاسمًا في عملية المصالحة الوطنية وبناء السلام من خلال توفير منصة للحوار والنقاش حول القضايا الرئيسية التي أدت إلى الصراع، والمساعدة في بناء توافق في الآراء حول مستقبل البلاد.
لا يكفي مجرد الدعوة إلى عودة المجلس الوطني، بل يجب أن تُتخذ إجراءات عاجلة لتوفير بيئة آمنة ومناسبة لعودة العمل البرلماني. وهذا يشمل تأمين الأعضاء والموظفين، فيجب ضمان سلامة جميع أعضاء البرلمان وموظفيه، مما يُمكنهم من أداء مهامهم دون خوف من التهديدات أو العنف، وإعادة تأهيل المباني البرلمانية وتوفير موارد البنى التحتية اللازمة (مثل أنظمة الاتصالات والمعدات المكتبية) لتمكين سير العمل بفعالية، وتوفير الدعم الفني والتدريب لأعضاء البرلمان والموظفين لتعزيز قدراتهم في مجالات التشريع، الرقابة، وتمثيل ناخبيهم، بجانب ضمان حماية حقوق أعضاء البرلمان في حرية التعبير والتجمع، والتي تُعد ضرورية لممارسة العمل التشريعي الديمقراطي.
إن عودة الحياة إلى طبيعتها في السودان لا تكتمل إلا بعودة مؤسساته الديمقراطية. إن استئناف العمل البرلماني ليس مجرد خطوة نحو التعافي، بل هو استثمار في مستقبل ديمقراطي ومستقر للسودان. على المجتمع الدولي، والجهات الفاعلة المحلية، والقيادة السودانية أن تُعطي الأولوية القصوى لتوفير الظروف المواتية لعودة المجلس الوطني لممارسة دوره التشريعي والرقابي، وذلك لضمان أن يكون الشعب السوداني هو صاحب الكلمة الأخيرة في تحديد مصير بلاده.
تُعد عودة العمل البرلماني في السودان بعد انتهاء الصراع خطوة حيوية نحو الاستقرار والديمقراطية، لكنها ستواجه بلا شك تحديات كبيرة منها انعدام الثقة وتعمق الاستقطاب السياسي، فسنوات الصراع تركت ندوبًا عميقة من انعدام الثقة بين مختلف الأطراف السياسية والمجتمعية. هذا التشرذم قد يؤثر على قدرة البرلمان على العمل كجسم موحد، وقد يعيق التوافق على القوانين والسياسات المهمة، ويمكن التغلب عليها ببناء الجسور من خلال الحوار وطلاق مبادرات مكثفة للحوار الوطني والمصالحة داخل البرلمان وخارجه. يمكن أن يشمل ذلك ورش عمل منتظمة وجلسات حوار مفتوحة لتسوية الخلافات وبناء أرضية مشتركة، وإنشاء آليات قوية ومحايدة لفض النزاعات داخل البرلمان، تضمن معالجة الخلافات بشكل بناء ودون تصعيد، ويجب أن يؤكد ويركز جميع النواب على المصلحة الوطنية العليا فوق المصالح الفردية أو الحزبية الضيقة.
تضررت البنية التحتية في الخرطوم بشكل كبير جراء الصراع. هذا يشمل مباني المجلس الوطني، أنظمة الاتصالات، وحتى الموارد البشرية المدربة. قد يواجه البرلمان صعوبة في استئناف عمله بكفاءة دون بنية تحتية مناسبة وموارد كافية، ويمكن التغلب عليها بتقييم الأضرار وإعادة التأهيل العاجلة وإجراء تقييم سريع للأضرار التي لحقت بمقرات البرلمان وتوفير التمويل اللازم لإعادة تأهيلها وتجهيزها بالمعدات الضرورية، وحشد الدعم المالي والتقني من المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية والبرلمان العربي لمساعدة البرلمان السوداني على إعادة بناء قدراته، بجانب توفير برامج إدارة الموارد البشرية بتدريب مكثفة للموظفين البرلمانيين على الإدارة، التشريع، والعمليات البرلمانية لتعويض أي نقص في الخبرة، والاستعانة ببيوت الخبرة التدريبية المتوفرة بالقاهرة.
لا يزال الوضع والتحديات الأمني في بعض مناطق السودان هشًا، وقد تكون هناك جيوب من عدم الاستقرار أو تهديدات محتملة لأعضاء البرلمان. ضمان بيئة آمنة واستدامة السلام للمشرعين أمر أساسي لتمكينهم من أداء مهامهم دون خوف، ويمكن التغلب عليها بتأمين توفير حماية أمنية شاملة لمبنى البرلمان وأعضائه وموظفيه، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية للدولة، وأن يُنظر إلى استئناف العمل البرلماني كجزء لا يتجزأ من عملية بناء سلام أوسع وأكثر استدامة تتضمن نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، وإرساء علاقة تعاون بناءة وواضحة المعالم بين البرلمان والقوات المسلحة السودانية لضمان احترام سيادة القانون ودور البرلمان.
قد تحتاج الإطار القانونية والدستورية في السودان إلى تعديلات كبيرة بعد فترة الصراع ليعكس الواقع الجديد ويضمن الشمولية والعدالة. قد يكون هناك خلاف حول طبيعة هذه التعديلات وكيفية إقرارها، ويمكن التغلب بإجراء مراجعة شاملة للإطار القانوني وتشكيل لجان خبراء قانونيين مستقلة لمراجعة الدستور والقوانين الحالية، واقتراح التعديلات اللازمة لضمان توافقها مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتوافقات الفترة الانتقالية واتفاقية جوبا، مع ضمان مشاركة واسعة من مختلف الأطراف المدنية، خبراء القانون، والمجتمع المدني في عملية المراجعة والصياغة الدستورية والقانونية، وفي حال وجود تعديلات دستورية جوهرية، يمكن اللجوء إلى استفتاءات شعبية لإضفاء الشرعية الديمقراطية عليها.
يتطلع الشعب السوداني إلى تحقيق العدالة، التنمية، والاستقرار بعد سنوات من المعاناة. ستكون تطلعاتهم كبيرة تجاه البرلمان الجديد، وقد يؤدي عدم تلبية هذه التطلعات إلى تفاقم الإحباط الشعبي وتصاعد الضغط الشعبي، ويمكن التغلب عليها أن يكون البرلمان شفافًا في عمله ويتواصل بانتظام مع الجمهور بشأن تقدمه وتحدياته، وتحديد أولويات واقعية ليعمل البرلمان بشكل واقعي وملموس، والتركيز على القضايا التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر (مثل الخدمات الأساسية، الاقتصاد، والعدالة)، مع تعزيز عزيز دور البرلمان في مساءلة الحكومة لضمان تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق الإصلاحات المطلوبة.
إن عودة العمل البرلماني في السودان ليست مجرد عملية إدارية، بل هي رحلة معقدة تتطلب التزامًا سياسيًا قويًا، دعمًا دوليًا، وإرادة حقيقية للمصالحة والبناء. إذا تم التعامل مع هذه التحديات بشكل استباقي وفعال، فإن البرلمان السوداني يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في رسم مستقبل مزدهر وديمقراطي للبلاد.