المقالات

شيء للوطن م.صلاح غريبة يكتب : المصالحة الوطنية: دروس من التجربة الرواندية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي السوداني

Ghariba2013@gmail.com

يمر السودان بفترة عصيبة تتطلب حلولًا جذرية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي وإرساء دعائم السلام والاستقرار. في خضم هذه التحديات، تبرز أهمية المصالحة الوطنية كركيزة أساسية لعملية الإعمار الشامل، مستلهمين الدروس من تجارب دول نجحت في تجاوز صراعاتها، وعلى رأسها التجربة الرواندية. إن الحديث عن المصالحة والسلام المجتمعي في السودان، مع التركيز على النموذج الرواندي، يفتح آفاقًا واسعة للنقاش حول كيفية تطبيق مبادئ المصالحة لتحقيق التعافي الاجتماعي والاقتصادي.
شهدت رواندا عام 1994 إحدى أبشع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث، حيث فقد أكثر من 800 ألف شخص أرواحهم في فترة وجيزة. لكن ما تبع ذلك لم يكن استمرارًا للفوضى، بل كان تحولًا جذريًا نحو المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار. لم تكن هذه العملية سهلة، بل تطلبت إرادة سياسية قوية، ومشاركة مجتمعية واسعة، وتطبيق آليات عدالة انتقالية فريدة، كان أبرزها محاكم الغاكاكا التقليدية. هذه المحاكم، التي تعتمد على العدالة التصالحية والمشاركة المجتمعية، سمحت الضحايا والجناة بمواجهة بعضهم البعض، والاعتراف بالجرائم، وتقديم الاعتذار، والمساهمة في عملية الشفاء.
لم تقتصر التجربة الرواندية على الجانب القضائي فحسب، بل امتدت لتشمل برامج بناء الثقة، وإعادة دمج المقاتلين السابقين، وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة فوق الانقسامات العرقية. لقد أدركت القيادة الرواندية أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال معالجة جذور الصراع، وتضميد الجراح، وبناء مستقبل مشترك يستند إلى التسامح والتعايش. واليوم، تُعد رواندا نموذجًا للاستقرار والنمو في القارة الأفريقية، وهو ما يبرهن على قوة المصالحة الوطنية كأداة للتحول.
يواجه السودان تحديات متعددة الأوجه، من آثار الصراعات المسلحة إلى الانقسامات الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، تصبح المصالحة الوطنية ليست مجرد خيار، بل هي ضرورة حتمية لإرساء دعائم السلام المستدام. إن المصالحة ليست عملية لنسيان الماضي أو التغاضي عن الجرائم، بل هي عملية للتعامل مع هذا الماضي بمسؤولية، والاعتراف بالآلام، وتحديد آليات المساءلة والعدالة، وتمهيد الطريق للمستقبل.
يمكن للسودان أن يستلهم العديد من الدروس من التجربة الرواندية، مع مراعاة خصوصيته الثقافية والاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، يمكن التفكير في:
آليات عدالة انتقالية شاملة: تتضمن لجان الحقيقة والمصالحة، والتي تتيح للضحايا رواية قصصهم وتوثيق الانتهاكات، بالإضافة إلى آليات للعدالة التصالحية التي تركز على جبر الضرر وإعادة الدمج.
بناء القدرات المجتمعية: تعزيز دور القيادات المحلية والمدنية في تسهيل الحوار والمصالحة على مستوى القواعد الشعبية، وتدريبهم على آليات فض النزاعات وبناء السلام.
إصلاح القطاع الأمني: ضمان خضوع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية للمساءلة، وإعادة تأهيلها لتكون حامية للمواطنين لا مصدرًا للخوف.
معالجة جذور الصراع: التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تغذي الصراعات، بما في ذلك التوزيع العادل للموارد، وإصلاح الأراضي، وتعزيز المشاركة السياسية لجميع الفئات.
تعزيز الهوية الوطنية: العمل على بناء هوية سودانية جامعة تتجاوز الانتماءات القبلية والإثنية والجهوية، من خلال التعليم والثقافة والإعلام.
إن المصالحة الوطنية ليست مجرد عملية سياسية أو قضائية، بل هي عماد الإعمار الاجتماعي في أعمق معانيه. عندما تتصالح المجتمعات، فإنها تستعيد الثقة بين أفرادها، وتلتئم الجروح النفسية، وتتعزز الروابط الاجتماعية. هذا الإعمار الاجتماعي يمهد الطريق للإعمار الاقتصادي والتنمية المستدامة، حيث يمكن للمواطنين أن يعملوا معًا لبناء مستقبل أفضل.
للسودان فرصة تاريخية لتحويل مسار العنف والشقاق إلى مسار السلام والتعافي. يتطلب ذلك إرادة سياسية قوية، وشجاعة لمواجهة الماضي، والتزامًا ببناء مستقبل مشترك يعتمد على العدالة والمساواة والتسامح. إن التجربة الرواندية تقف شاهدًا على أن المصالحة الوطنية، برغم صعوبتها، هي الطريق الأمثل نحو بناء أمة قوية ومتماسكة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *