سمعناها لأول مرة من عمنا علي صالح محمد قاسريب ، و عمنا علي صالح باسمه الرابع الحضرموتي نافس اهلنا اليمانية في الشطارة و في التجارة و في معاملة الناس .
كان عمنا علي صالح بارعا في معاملة الزبائن ..كنت تراه بدكانه الكائن بحي الربع الثاني في عروس الرمال المطل علي حي الشويحات و المكتظ بانواع البضائع الانجليزية و المنتجات المحلية عالية الجودة من زيوت و صابون يتوسطها شاي البحاري و صابون ابو وردة ، حنة التاج و امواس ناسيت ..كنت تراه يكالم الزبائن بوجه طلق سمحا و هو يبيع .. لايفتأ يرطن بلهجات الجنوب كلها و هو يتكلم مع ( الشول ) بلكنة جنوبية فصيحة تبدأ بالتحايا التي لا يمل تكرارها .. جباك .. فادو ثم يستغرق في الضحك عندما تنتابها الشول نوبة من الحديث الطلق بكلمات التقطنا بعضها و بعضها ضاعت بين طيات الضحكة الصافية لعمنا علي ، لم تكد تذهب الشول بعيداً حتى تأتي حاجة زهرة التي تضع ما تحمله قفة كبيرة علي الارض و ترد علي تحايا عمنا علي صالح ( سنو سنو .. عافية ) تحمل اغراضها و تمضى تشيعها الضحكات و كلمات ابتدائية من لهجة الغلاتة .. ثم يأتي الاغبش حاملا ارتال البضائع يضعها بسرعة متفادياً عبارات عمنا علي الساخرة و هو يكيل له من المزاح ما يجعله يقطع اغنيات الحنين الي البلد التي كان يستعين بها و هو ينزل اثقال البضائع داخل الدكان و في الاثناء يدخل طفل صغير ارسلته امه ليحضر نصف وقية بن و الوقية هي مقياس للوزن بالرطل الذي يحمل في جوفه اثني عشر وقية و ها هو الطفل يطلب من الوقية نصفها . نصف تكمل به امه كيف ونسة القطيعة و قطيعة الونسة مع نسوة هبطن دارها في غير ميعاد .. يدخل الطفل ليعاجله عمنا علي صالح بعبارة اعتادها كلما يراه و اعتاد ان يرى علامات الغيظ التي تعترى الطفل فيتمادى عم علي في ترديدها .. ماك مندلي كريمي ..يحمل الطفل نصف وقية البن و معها من المنكهات و البهارات ما اعتاد أناس الزمن البعيد ذاك بتسميته بالدواء الذي هو خليط من الجنزبيل و الحبهان و القرنجال و كان يأتي الدواء مجانا مكملاً لكيف القهوة الكامنة في نصف اوقية من البن . ينصرف الطفل الي بيته فيأتي شاب ليشترى سيجارة برنجي ليتكلم معه علي صالح بلهجة بدوية استقاها من نكتة شعبية ان ( ملاحكو حلو و كسرتكو بيضاء علا تلبدكو للحمة في لب الكسرة بجيب لكو الملامة ) يضحك الشاب الذي اعتاد سماع ذات العبارة كل مرة يلتقط علبة الكبريت الملقاة علي سطح ( بترينة الدكان) .. يشعل سيحارته ينفث سحابة من الدخان في سماء الدكان ،، تتسلل سحب الدخان بين اسنانه عندما تنفرج اساريره بالابتسام و يرد علي عمنا علي بما يجعله يضحك حد القهقهة ثم ينصرف .
يبدأ عمنا علي عمله في الدكان صباحاً باكراً بعد ان يؤدي صلاة الصبح حاضراً في المسجد القريب ثم يفتح ابواب متجره مستقبلاً موردي البصائع الطازجة والتي يأتي علي رأسها الخبز الطازج و الذي يتم توريده من المخبز رأساًً و ما ان ينصرف الذي يورد الخبز البلدي الذي تكتمل استدارته وجه القمر ، حتى يأتي مورد الخبز الشمسي و هو نوع من الخبز البلدي الذي يتسربل بنثارة القمح في واحدة من جنبتيه و تلمع الاخرى بلون التحميص الذي تفنن في صنعه خباز ماهر .. ثم يأتى من يورد الخبز الافرنجي الذي يشبه ( التوست الفرنسي ) و كانوا يطلقون عليه ( عيش التوست ) ..كان ينال كل واحد من هؤلاء الموردين ما يناله من علقة دعابة عمنا علي و التي يشتد اوارها كلما تميز الاخر غيظا .. فيلقي عليه من مخزونه الزاخر فوجاً آخر من الهظار اللطيف ، كانت الابتسامة الساخرة لا تفارق وجهه عمنا علي صالح و هو يؤدي عمله في دأب و في حب و مثابرة ..
ينتهي عمنا علي صالح من اعدادات المتجر المكتظ بانواع البضائع كلها و يقوم بتجهيز قدرة فول عملاقة في حوش ملحق بالمتجر و يفتح فيه باب داخلي علي الدكان و لم تلبث ان تتصاعد الابخرة من القدر الكبير لتسمق نكهة الفول و هو في طريقه الي الاستواء والذي يتسلل خلسةً الي داخل المتجر ليختلط بروائح زيت السمسم و صابون البوكيه و صودا صابون غسيل جميل و رائحة الند الذي يصعد خيط دخانه عالياً في سماء الدكان ، تختلط كل هذه الروائح مع دخان كثيف لا يلبث ان يخفت ، منطلقة ( مبخر ) يلهلب جمره ليتصاعد خيط دخانه ليراقص نغم راديو الفيليبس الفخيم و هو يذيع علي الموجة القصيرة سمح كلام هاشم صديق لحناً من هنا ام درمان يقول فيه المغني ابن البادية بمقامه السامي و فنه الرفيع ( فى مرة طاف بينا الخيال بعد الغياب الطال جرح / شفنا البخور فى الريح عبق والليل شرب عطر الطلح / و حدا الطريق قام الخدار حاضن صفيقات القمح / والغيم ربط فوق للفريق شافو الشتل شابى وفرح / والقمرة نامت فى الرمال والطين شرب نديان صبح / والوادى فرهد بالخريف اخضر بقشو السمح ) .
يعج المتجر بالحركة عندما يأتي ( صبية الدكان ) من اولاد الاسرة الممتدة ينشطون في اعداد السندوتشات من الحوش الملحق بالدكان التي تتنوع بين الفول بالجبنة ، ثم الجبنه و الطعمية و المربة و الطحنية ، و يقوم عمنا علي بعملية تلبية الطلبات المتزاحمة من عشرات التلميذات اللائي توافدن علي المتجر يطلبن وجبة الافطار . كان متجر عمنا علي في مفترق طرق تتراص امامه مدارس البنات الثانوية العامة وقتها و كن التلميذات يحضرن زرافات و وحدانا لشراء ساندوتش الافطار من عمنا علي الذي تراه ساعتئذ يكسو وجهه صرامة استاذ و وقار مربي و هو يلبي طلبات الفتيات الصغار و ربما ينتهر احداهن بابوية حنونة اذا رأها تتجاوز دورها في طلب الخدمة فوق رقاب زميلاتها .و كان عمنا علي الي جانب ذلك يخصص كمية من السندوتشات يوزعها مجاناً لمن تعجز عن توفير ثمن وجبة الافطار ، يفعل ذلك بطيب خاطر و بفرح من يزرع في الدنيا ليحصد في الاخرة صدقة جارية لا تنقطع .
و مع نغمة جرس الطابور تهدأ عاصفة الكلام الذي تصطنعه تلميذات المدارس امام المتجر ثم لا تلبث ان تراهن مهرولات نحو المدارس المتراصة في ( وقار ) . و يسود المكان صمت نبيل .
و تنفرج اسارير عمنا علي بعد ان انفض سامر التلميذات و هو يري الشول قادمة نحو المتجر ليهتف محيياً جباك فادو ، ثم تأتي الزهرة ب ( سنو ..سنو .. عافية ) ثم شاب البرنجي و دخان سيجارته الذي يتلوى في سماء المتجر ثم يأتى الطفل الذي لم يذهب الي كريمي بعد .
و يمضي عمنا علي الي رحاب مولاه حاملا معه صدقات جارية لا تنقطع بعد عمر حافل بجلائل الاعمال و افعال الخير .. يمضى عمنا علي و تظل تتردد في ارجاء المكان كلما مررت به اصداء اغنيات ابن البادية من الراديو الفيليبس و اهازيج مورد البضائع مستعينا بها علي وعثاء العمل ، و ضوضاء تلميذات المدارس و ونيتهم الصاخبة ، رائحة البخور المعتق بنكهات البوكيه و شاي البحاري و ابتسامة الشاب و زعل طفل كريمة ، ( هرج الشول ) و رطانة زهرة .