
من يتابع ما يجري في المجلس الأعلى للحج والعمرة هذه الأيام، سيجد نفسه أمام نموذج فج لفساد إداري لا يراعي حرمة الزمان ولا قدسية المهمة التي يتولاها، ما كشفت عنه الزميلة رشان أوشي في مقالها المتداول (الوقائع المؤلمة وساعة القرار) ليس مجرد خلل إداري عارض، بل جريمة أخلاقية مكتملة الأركان، ارتكبت بسبق الإصرار والترصد وتحت راية خدمة زوار بيت الله الحرام.
باختصار، ما حدث لا يحتمل التخفيف: الهيئة العامة للحج والعمرة، ممثلة في أمينها العام سامي الرشيد، قررت الالتفاف على عطاء رسمي لنقل الحجاج بحراً ،بينما كان المفترض أن تتنافس الشركات المختلفة لتقديم أفضل العروض للمواطنين، لجأت الهيئة، وعلى رؤوس الأشهاد، إلى إبرام عقد حصري مع شركة واحدة (الكنزي)، قبل أن تفتح مظاريف العطاء الرسمي.
وقع العقد في الخفاء يوم 5 فبراير 2025، رغم أن إجراءات الاعتماد العلني للشركات كانت مؤجلة إلى يوم 18 فبراير. هكذا ببساطة، تم تجاهل قواعد المنافسة، وتم ضرب القانون بعرض الحائط. بل تم الدفع مقدماً للشركة المختارة سراً، لتصبح كل الإجراءات التي لحقتها مجرد مسرحية بائسة لا تحترم ذكاء الناس ولا مشاعرهم.
الأدهى والأمر أن الشركة المختارة لا تملك الحد الأدنى من الإمكانات لنقل العدد المطلوب من الحجيج ،فباخرتها لا تتسع سوى لـ260 سريراً، في حين يبلغ عدد الحجيج المقرر نقلهم 1400 شخص ،أي أن مئات الحجاج سيُجبرون على الجلوس على الأرض، كأن إكرام الحجيج لم يعد غاية بل أصبح عبئًا على القائمين بالأمر.
الرسالة التي يُراد إيصالها هنا واضحة: لا حرمة لعطاء، ولا احترام لمنافسة، ولا قيمة لحاج سوداني خرج من ضيق الحرب واللجوء بحثاً عن لحظة صفاء بين يدي ربه.
وإذا كان سامي الرشيد، بحسب ما نقلته الزميلة رشان، قد تجرأ على تبرير فعلته بقوله: “أنا بمزاجي، والماعاجبوه يمشي يشتكي لمجلس السيادة”، فإن الطامة أعظم. هذا التصريح السمج لا يعبر عن شخص منفلت فقط، بل يكشف عن مرض أخلاقي أعمق استبد بالمؤسسات، حيث تحوّل المسؤول من خادم للناس إلى مالك لأرزاقهم وأحلامهم.
في هذه اللحظة، لم يعد السؤال: من زور العطاء، ومن خان الأمانة؟ فذلك واضح وضوح الشمس. السؤال الأخطر: أين السلطة من هذا العبث؟ وأين صمت الدولة مما جرى ويجري؟ هل نحتاج إلى أن يقع المظلومون في الشوارع وتثور الحناجر الغاضبة حتى تفهم السلطة أن حماية الفاسدين لا تدمر المؤسسات فقط، بل تدمر السلم الاجتماعي أيضاً؟
ما حدث في هيئة الحج والعمرة ليس حادثاً معزولًا، بل جزء من نمط متكرر يؤكد أن الدولة التي تعجز عن صيانة أطهر شعائرها من أيدي العابثين، لن تقدر على حماية مواطنيها في تفاصيل حياتهم اليومية.
إن كل دقيقة تتأخر فيها المحاسبة، وكل لحظة صمت تمر على هذه الفضيحة، إنما هي إذنٌ إضافي للفاسدين بأن يواصلوا العبث، حتى إذا استفحل الغضب وانفجرت المظالم، قيل يومها: لا صوت يعلو فوق صوت الأزمات.
ويبقى أن نذكّر أن الحج عبادة، ومن أسوأ الجرائم أن يُحاصر الناس في طاعتهم بين براثن السماسرة والمرتشين، الأوطان لا تنهار فجأة، بل تسقط عندما يستسلم الشرفاء لصمتهم الطويل.