
(1)
الأشلاء تملأ الافياء .. الاسرة والاهل والجيران تقطعت بهم السبل .. بلغت الأرواح الحلقوم وتعالت صيحات الحرب . غم وهم وحزن ، عويل وبكاء ، ودموع تسيل . كنا هناك قبل اندلاع الحرب !
(2)
جلسنا الي مقهى صغير في طرف السوق المزدحم نتابع في قلق احوال من تقطعت اواصر التواصل معهم وتاهوا بين أدغال وجبال وصحراء في مسير طويل بين تعاريج الدروب ومتاهات الطرق . أقبل نحونا في هدؤ عجيب ، حيانا بانحناءة مهذبة ثم طفق يقول : ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) نظرت اليه شذراً وعدت الي التلفون اتابع أحوال من تقطعت بهم السبل .
(3)
(أشرقت شمس اليوم الثاني ) تحمل معها مزيد من الاخبار السيئة عن الحرب ، وعند المساء عدنا الي ذات المقهى ، جاءنا حيث نجلس حيانا بانحناءة مهذبة ثم طفق يقول : ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) كدت اقول له: ( الناس في شنو ؟ وانت في شنو ) . الطرف الثاني في التلفون يقول لي من بعيد ما فهمت انهم لم يتمكنوا من ايجاد وسيلة تخرجهم من الخرطوم المحترقة – وقتها- الي اي فضاء بعيد عن صوت المدافع ، انفجار الدانات ، وأزيز الطائرات الحربية ازداد القلق وتمكن منا احساس عجيب بالقلق الفادح وقلة الحيلة .
عاد يقول ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) رفعت نظري اليه مستاء وتعابير مرسومة علي وجهي تكاد تنطق : ( يا زول اختانا ..) !!
(4)
في اليوم الثالث أتانا حيث نجلس وهتف في هدؤ قاتل ووجه جامد يخلو من التعابير :
( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) . اشحت بوجهي بعيداً عنه ، سدت غصة حلقي ولم انطق .
(5 )
عاد في اليوم الرابع وكرر قول حسبناه ممجوج
( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) بلغ الاستياء منا مبلغاً عظيماً لذنا بالصمت ، لجمنا ثورة الغضب التي تشتعل في الدواخل ، ولم نقل شيئاً . ولكن لسان حالنا ينطق صارخاً ( ياخ .. دا وقتو ؟؟)
(6)
وقف امامنا في اليوم الخامس والسادس والعاشر والخمسين والواحد بعد المائة يعيد قوله المأثور ، ذات الابتسامة الغامضة ، ذات المفردات :
( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) ما عُزنا قط الزلابيه ولا البطاطس ولا اي شئ آخر ، كنا نرى بعين الخيال زلابية حاجة أمونة جارتنا العزيزة علي قبرها الف رحمة ونور وهي تبعث الينا كل يوم طبق من الزلابية الساخنة نتدفأ به قبيل ان نذهب الي المدرسة القريبة من البيت مشياً علي الأقدام . يعود وكأنه يقطع علينا حبل افكارنا المشوشة بأخبار الحرب ويقطع علينا سفر خيالنا ويقول ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) . ما عدنا نأبه لما يقول وقد طاف بينا الخيال بعد الغياب الطال جرح .
(7)
تمر السنة الاولى الكبيسة للحرب 366 يوم ، ننقطع احياناً عن المجئ الي المقهى ولكن وفور وصولنا بعد انقطاع يظهر امامنا كانه يهبط ببرشوت من السماء :
( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. )
(8)
تأتي السنة الثانية للحرب ثقيلة ويأتي صاحبنا يومياً :
( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) لم يوقفه برد وصقيع ،حر أو مطر ،يتدثر بلبس ثقيل اتقاء البرد الشديد ، يحمل مظلته تتساقط عليها حبات المطر ويرسل قوله نحونا ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) .. تمر علينا عدة فصول شتاء والصيف وخريف ونفتقد القمرة وقد نامت فى الرمال (والطين شرب نديان صبح)
(9)
بهذا الدأب والمثابرة والحرص
والاهتمام والقول المحدد السديد ما توقف عن الحضور ولا عن تدوير أسطوانة قوله ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) ، مررنا نحن بحالات شتى علواً وهبوطاً ، حزن وحزن ثم حزن ،نتابع احوال الحرب ، وتحولنا من حالات اللامبالاة والسخرية من صاحبنا الذي ما مل يوم قوله ولا توقف ، تحولنا الي شئ من الاهتمام عندما قال احد الأصدقاء بعد 800 يوم من الحرب ماذا لو جبرنا بخاطره وطلبناها الزلابية !! وقد كان .. وعندها لا استيطع أن اصف ابتسامة النصر التي اشرق بها وجهه عندما فاز بطلبنا الاول من منتجه الذي كان يروج له بمقولة واحدة لم يبارحها او تبارحه : ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) !!
(10)
وبمثلما ظهر ، إختفى .. مر يوم اثنين ، عشرة ولم يظهر ، شعرنا بقلق بالغ وحزن دفين نتحسسه ولا نتبين موضعه ، خفنا ان يكون قد الم به مكروه، ما احتملنا غيابه ، وصار مبلغ همنا ترقب مجيئه ( تتهامس بنا الاشواق أنه آتي وتصيح بنا الاوهام .. لن يأتى ) فقد صار لون واحد في لوحة عالمنا الجديد رسمها بقوله المثابر السديد ، لم نطق صبراً ذهبنا الي حيث يعمل وقلنا لهم ( عايزين زلابيا و بطاطس .. ) ثم سألنا عن صاحبنا !! اين هو ؟ ابتسم زميلاً له يرتدي ذات الزي قائلاً ( عقبال عندكو .. فلان تمت ترقيته الي مدير إقليمي ونُقل الي خارج البلاد مسئول من عدة افرع وقد سافر الي هناك ) .
إنه الدأب والمثابرة والإصرار والإخلاص هي ما جعلت من موظف مبيعات صغير مديراً اقليميا كبيراً لمنتج متوفر بكثرة في بلدان كثيرة وفي محلات عديدة ولكن ينقصه الترويج والقول السديد ( لو حضراتكو عايزين زلابيا أو بطاطس .. ) !!










