
وكالات _ عزة برس
في بلدٍ أنهكته المدافع وشقّته الدماء، لا تُكتب النجاة للجميع. في السودان، حيث لم تترك الحرب شيئًا على حاله، تدفع النساء الثمن مرتين: مرة بكونهن الحلقة الأضعف، ومرة ثانية حين يقررن النجاة من زواج فاشل في زمن تبدو فيه المطالبة بالحقوق ترفًا.
لم تعد الحرب وحدها تدمّر البيوت، بل امتد أثرها إلى العلاقات الزوجية. ارتفعت معدلات الطلاق بنسبة 30% في عام واحد فقط، لتسجّل أكثر من 96 ألف حالة في 2023، مقارنة بـ70 ألف حالة في 2022، في مؤشر خطير على تفكك النسيج الاجتماعي تحت ضغط النزوح، الفقر، والعنف الأسري.
“إذا طلبتِ الطلاق.. لن تري أطفالكِ مجددًا”
تلك كانت صدمة “أسماء” (اسم مستعار) حين أخبرها زوجها بأنه سيُلقي طفليهما في بئر إن أصرت على الطلاق. لم تكن الحرب وحدها ما يُرهقها، بل رجل استغل غياب القانون وخطورة الأوضاع ليختطف أبناءها ويهددها بهم.
عانت أسماء لسنوات من الضرب، القهر، والإهمال، إلى أن جاءت الحرب لتقلب حياتها رأسًا على عقب. فرت مع أطفالها من الخراب، لتجد نفسها عالقة في كابوس آخر، وحيدة بلا سند، في مجتمع لا يرحم المرأة المطلقة، ولا يسندها إن أرادت الطلاق.
بعد رحلة شاقة، واستشارة قانونية عن بُعد مع المحامية السودانية “أنديرا الأمين” المقيمة بالقاهرة، استعادت أسماء طفليها بحكم قضائي، وتحررت من زواج كان أقسى من أصوات المدافع.
—
“مطلقة في الغربة.. بلا وطن ولا دعم”
“سلمى” و”مروة” أيضًا كانتا ضحيتين لحرب لم تكونا جزءًا منها. عاشتا في الخليج، وانهارت حياتهما مع انتقال عائلات الأزواج إليهما بسبب الحرب. التدخلات، الضغوط، وغياب الدعم حول الزيجات إلى سجون مغلقة. حين طلبتا الطلاق، لم يكن الأمر بسيطًا. لا أوراق، لا محامين، لا أموال، ولا وطن يعودن إليه إن فشلن.
—
طلاق معلّق.. أو حياة معلّقة؟
تحكي أنديرا عن مئات الحالات لسودانيات معلقات، لا هن متزوجات ولا مطلقات، بعدما اختفى الأزواج بلا أثر. بعضهن انتظرن أعوامًا لحكم لا يُنفَّذ. أخريات وقعن ضحية زواج مبكر خلال الحرب، ثم تُركن مع أطفال بلا نفقة أو مأوى. تقول: “حتى لو قرأت المرأة القانون، فمصيرها هو الكانون!”.
—
قوانين غائبة.. ومجتمع لا يرحم
لا يختلف الحال كثيرًا داخل السودان أو خارجه. في مصر – التي استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوداني – تعاني النساء من تعقيدات قانونية هائلة لإثبات الزواج أو طلب الطلاق، وسط نقص المستندات الرسمية وصعوبة إصدار الإقامات أو توكيل المحامين.
المحامي أشرف ميلاد يؤكد: “الحرب عطّلت كل شيء، حتى أبسط حقوق النساء القانونية أصبحت ترفًا يحتاج إلى معركة.. ومعظم اللاجئات لا يملكن حتى ثمنها”.
—
طفلات متزوجات.. ومطلقات!
من أكثر المشاهد إيلامًا، ارتفاع معدلات زواج القاصرات، خاصة في مناطق الريف، تحت ذريعة “الحماية” من الاغتصاب أو “تخفيف العبء المادي”. والنتيجة: طفلات يُزففن إلى رجال، ثم يُطلقن بعد شهور، وقد تحوّلن إلى أمهات صغيرات دون سند أو حقوق.
—
كل حالة طلاق = مأساة مكتملة الأركان
تقول رئيسة منظمة زينب لتنمية المرأة، فاطمة سمهن: “لا توجد امرأة سودانية تطلب الطلاق عبثًا.. بل بعد صبر ومعاناة طويلة”. الحرب عمّقت المشكلات القديمة: الفقر، تدخل الأهل، العنف، التبعية الاقتصادية، وغياب الخصوصية.
أما الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم، فترى أن غياب التوعية، واستمرار تزويج القاصرات، وسيطرة العادات القديمة من أبرز أسباب فشل الزيجات، قائلة: “الطلاق حق.. لكن المرأة السودانية تدفع ثمنه غاليًا، خاصة حين تكون غير متعلمة أو بلا مصدر دخل”.
—
الطلاق الآمن.. حلم مؤجل
وسط هذا الجحيم، تطالب الناشطات والخبيرات بإصلاح شامل لقوانين الأحوال الشخصية في السودان، وتجريم زواج القاصرات، وتوفير مسارات قانونية واضحة تحمي النساء وأطفالهن. فالطلاق الآمن، رغم بساطة الكلمة، هو الأمل الوحيد لحماية النساء من المزيد من الانهيار.
—
خاتمة
في السودان، لا تفر النساء من رجالهن فقط، بل من واقع قاسٍ يرفض الاعتراف بحقهن في الرفض والنجاة. وفى زمن الحرب، يتحول الطلاق إلى معركة أخرى، لكن هذه المرة، بلا ذخيرة ولا غطاء.
—
تحقيق: أمنية الموجي – محمد سالمان | تحرير: اليوم السابع