المقالات

شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب:هوية في مهب الريح.. تحديات السودانيين في مصر بين البحث عن عمل وإعادة تعريف الذات

Ghariba2013@gmail.com

تفرض الحروب دائمًا ظروفًا قاسية، وتُلقي بظلالها الثقيلة على حياة الأفراد، ليس فقط بالتهجير وفقدان الممتلكات، بل أيضًا بتقويض أسس الهوية التي بناها الإنسان على مر السنين. يواجه الآلاف من الرجال والنساء السودانيين الذين وصلوا إلى مصر بسبب الحرب واقعًا مريرًا، حيث تضاف إلى صدمة النزوح تحديات جمة تتمثل في صعوبة الحصول على عمل أو برامج دعم محددة. في هذا السياق، يصبح السؤال المطروح “من أنت بدون وظيفتك؟” أكثر إلحاحًا ووجعًا بالنسبة لهؤلاء الوافدين.
في مجتمع غالبًا ما يربط القيمة الذاتية بالوظيفة والمسمى الوظيفي، يجد السوداني نفسه مجردًا من هذا التعريف الأساسي. بعد أن كان له عمله، مركزه الاجتماعي، وحتى هويته المتشابكة مع وظيفته في السودان، يصبح في مصر مجرد “لاجئ” يبحث عن فرصة عمل قد لا تأتي. هذه الوضعية تخلق “هوية متناقضة” بالمعنى المطروح، حيث يواجه الفرد واقعًا يفرض عليه إعادة تعريف ذاته، بعيدًا عن أي مسمى وظيفي.
الشعور بأن “الشغل جزء من الهوية” يتلاشى بسرعة عندما لا يكون هناك “شغل” من الأساس. يصبح البحث عن عمل ليس مجرد حاجة مادية، بل بحثًا عن استعادة جزء مفقود من الذات. في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر، والمنافسة الشديدة في سوق العمل، يجد الكثيرون أنفسهم في حلقة مفرغة من اليأس والإحباط. تغيب البرامج المتخصصة التي تستهدف تمكين السودانيين بشكل فعال في سوق العمل، وتفتقر الكثير من المبادرات إلى القدرة على دمجهم بطريقة مستدامة وكريمة.
الأكثر من ذلك، أن التركيز على “الشغف” الذي يتحول إلى “شغل” يصبح ترفًا بعيد المنال عندما يكون الهدف الأساسي هو البقاء على قيد الحياة وتوفير الاحتياجات الأساسية. يصبح الحلم بتحويل الهوايات إلى مصدر دخل مجرد ذكرى بعيدة، وتتحول المتعة إلى واجب، والفضاوة إلى توتر وقلق بشأن المستقبل المجهول.
لكن، وسط هذه التحديات، يكمن بصيص أمل في مفهوم “فك ارتباط الذات بالوظيفة” ، وعلى الرغم من صعوبة ذلك في ظل الحاجة الملحة للعمل، إلا أن هذا الظرف القاسي قد يكون فرصة – وإن كانت مؤلمة – لإعادة اكتشاف الذات بمعزل عن تعريفها الوظيفي.
كيف يمكن للسوداني أن يفك هذا الارتباط وهو يواجه أزمة وجود؟ قد يكون الجواب في البحث عن أنشطة خارج إطار العمل، حتى لو كانت بسيطة: تعلم مهارة جديدة، الانخراط في أنشطة مجتمعية، أو حتى مجرد لقاء أناس جدد لا يعرفونه من خلال “بطاقة عمل”. هذه الأنشطة قد توفر متنفسًا، وتُعيد بعضًا من حس الانتماء، وتُمكن الفرد من إعادة بناء جزء من هويته خارج قيود المسمى الوظيفي.
في النهاية، الصورة الكبرى التي يجب أن نركز عليها هي أن الهوية الحقيقية أوسع بكثير من مجرد وظيفة. اللاجئ السوداني ليس مجرد “باحث عن عمل” أو “نازح”. هو إنسان له تاريخ، وله مهارات، وله شغف – حتى لو كان هذا الشغف مدفونًا تحت ركام الحرب والنزوح. عندما يُسأل اللاجئ السوداني عن “ماذا تعمل؟”، قد يكون الجواب الصادق والمُعزي في آن واحد: “أنا أبحث عن عمل، ولكني أيضًا أتعلم، وأتطوع، وأحاول أن أجد طريقي في هذا الواقع الجديد”.
إن الهوية التي تُبنى على أساس الوظيفة قد تنهار مع أول استقالة، أو في هذه الحالة، مع أول نزوح. لكن الهوية التي تستند إلى جوهر الإنسان، إلى ما يشرح صدره حقًا، هي الهوية التي تستمر وتزدهر، حتى لو تغير كل شيء آخر. هذه هي الرسالة التي يجب أن تصل إلى اللاجئين السودانيين، وإلى المجتمعات المضيفة على حد سواء، لتكون دليلاً لهم في رحلتهم نحو إعادة بناء حياتهم وهويتهم في ديار الغربة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *