المقالات

بحصا بحصافة.. البرهان في نيويورك.. بين تسديد الهدف ومرافعة الاتهام إمام محمد إمام

i.imam@outlook.com

يتساءل الكثيرون عن حيثيات وأسباب الصدى الواسع الذي وجده خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس المجلس السيادي الانتقالي والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الخميس الماضي، في الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة-، المحلية والإقليمية والدولية، إذ لم يكن في الحُسبان أن يتصدر خطاب البرهان، كلمات من سبقوه من رؤساء الوفود، بشكل ملحوظ في تلكم الوسائط الصحافية والإعلامية. وقد شكل ذاكم الخطاب بُعداً دبلوماسياً في سوح المنابر الدولية، لا يقل عن البُعد العسكري للجيش السوداني في دحره لمليشيا الجنجويد! فالدبلوماسية في وطأة الحرب لا تقل أهمية عن جعجعة السلاح، وأزيز المدافع والطيران. فالدبلوماسية هي نظم ووسائل الاتصال بين الدول الأعضاء في الجماعة الدولية، وهي وسيلة إجراء المفاوضات بين الأمم. ويطبق اليوم بعض أهل الأدب هذا التعبير على الخطط والوسائل التي تستخدمها الأمم عندما تتفاوض. فالتفاوض، في هذا المعنى يشتمل على صياغة السياسات التي تتبعها الأمم، لكي تؤثر على الأمم الأخرى. فلا غروّ أن نجحت الدبلوماسية السودانية من خلال خطاب البرهان في تقديم مرافعة قوية عن الحرب ومآلاتها وآل دقلو وجنوده وجرائمهم، في تسديد الهدف، وتحقيق المقاصد.
أكبر الظن عندي، أن الدبلوماسية السودانية، بعد أن عادت إليها الروح، بعودة جهابيذها الذين فصلوا ظلماً عدواناً من وظائفهم، فعملوا ليل نهار، لإعادتها سيرتها الأولى، همةً وإخلاصاً، فكان هذا الحراك الرئاسي، والنشاط الدبلوماسي الذي قاده الأخ الصديق علي الصادق وزير الخارجية، ابن دفعتي في كلية الآداب بجامعة الخرطوم وصحبه الشهاليل والذي أدهش الكثيرين، في رحلات ماكوكية للرئيس البرهان في عدد من البلدان، والحرب ما زال وطيسها حامٍ! وما حدث في نيويورك قبل وأثناء انعقاد الجمعية العامة في الأمم المتحدة من نشاطٍ دؤوب، بروح الفريق الواحد المتجانس، أسفر عن حدثين مهمين في دهاليز الأمم المتحدة، أولهما بجهد جهيد وعناد شديد، برفض وجود فولكر في أراضي السودان، وانسحاب وفد السودان لدى الأمم المتحدة من شهود فولكر متحدثاً عن السودان، فاضطر إلى الاستقالة. والحدث الثاني حضور البرهان إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومخاطبتها ولقاءات مع رؤساء الوفود في نيويورك، وتحول الرأي العام الرسمي في دول الغرب ضد مليشيا الجنجويد الذين أصبحوا مطاردين في الداخل عسكرياً، وفي الخارج سياسياً!
مما لا يُستغرب له، أن رويات تتالت من بعض الشهداء العسكريين الذين لازموه وزاملوه في الكلية الحربية، أكدوا إجادة الأخ الفريق أول عبد الفتاح البرهان للرماية أي التنشين، ومبلغ علمهم في ذلكم، أنه حصل على جائزة الرماية في دفعته. ولفظة “الشهداء” لها معنى واحد رئيس تتفرع منه تفرعات، وهو: الإحاطة الشاملة الدقيقة، بالموضوع الذي يُراد منهم الشهادة بشأنه، من غير أن يعتور تلكم الإحاطة شيء من الخطأ أو الخلل أو عدم الشمول والاستيعاب. والشهيد صيغة مبالغة في “شاهد”. والمبالغة هنا تعني الإحاطة والتدقيق، وأقصى التأكد. والبرهان حسب هؤلاء الشهداء، لديه قدرة فائقة على الرماية والمهارة في تسديد الهدف. إلى ذلك، ذهب أحدهم إلى أن البرهان أصاب محمد حمدان دقلو تنشيناً في مقتل! على كل، كان الخطاب موجزاً في سرد الحكاية (الحرب)، إذ لم يشغل الحضور بتفاصيل الحرب وأهوالها، لكنه عمد في خطابه، على تأكيد أن الشعب واجه حرباً مدمرة منذ الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي إلى يوم الناس هذا، شنتها عليه قوات الدعم السريع التي وصفها بالمتمردة، مشيراً إلى تحالفها مع مليشيات قبلية وأخرى إقليمية ودولية ومرتزقة من مختلف أنحاء العالم. ومع ذلكم أعاب عليه بعض جماعة الحُلم القديم من الحرية والتغيير المركزي، وآخرين تبعثرت أحلامهم بعد أن فرّ هؤلاء من قسورة (الحرب)، انطبق على حالهم ذاكم، قول الله تعالى: “كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ”، وتركوهم يبكون على الأطلال، من أن الخطاب كان طويلاً ملولاً، يجنح إلى تفاصيل تؤكد المؤكد! وما دروا أن الخطاب يُجلجل من منبر دولي، كان من المهم أن يخاطب عقول وضمائر المجتمع الدولي، وبينصره فيهم إنسانيتهم، وبمفردات تُثير إنسانية الإنسان، عندما يؤكد ارتكاب مليشيا قوات الدعم السريع “جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في معظم أنحاء السودان، ومارست التطهير العرقي والعنف الجنسي”. ولم يفت على الخطاب التركيز على أهوال بعينها ارتكبتها قوات الدعم السريع مجردة عن إنسانية الإنسان، ومتسمة بوحشية الحيوان، في مناطق مثل الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور، وما زالت تمثل صدمة للضمير العالمي.
وأحسبُ أن الخطاب كان حريصاً على تأكيد أن القوات المسلحة بذلت كل السبل من أجل إيقاف الحرب عبر الاستجابة لكل المبادرات، سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية، موضحاً قبول الجيش لحضور اجتماعات جدة بدعوة من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، مشيراً إلى أن تقدماً كاد أن يتحقق من تلكم الاجتماعات الجداوية، لولا تعنت المتمردين ورفضهم الخروج من منازل المواطنين والأحياء السكنية!
وفي رأيي الخاص، طمأن الخطاب المجتمع الدولي أن القوات المسلحة السودانية، لم تكن متعنته، أو مصرة على القتال، بل كانت تجنح إلى السلم، دون أن تجنح مليشيا الدعم السريع إليه، بقبول مبادرة الإيقاد ومبادرة دول الجوار التي عُقدت في مصر، ومدت يدها بيضاء من غير سوء من أجل السلام، وإيقاف الحرب، ورفع المعناة والمضاغطات عن الشعب السوداني، ولكن قوات الدعم السريع، كانت وما زالت ترفض الحلول السلمية وتصر على تدمير الدولة.
أخلص إلى أن المرافعة القوية التي تضمنها الخطاب في ثنياه، التأكيد على أن هذه الحرب ليست حرباً داخلية بين طرفين مسلحين، أو جنرالين، بل هي اعتداء لم يتوقف عند القوات المسلحة، شملت كل مقومات الدولة ومكوناتها، ولم يسلم من اعتداءات قوات الدعم السريع حتى المواطنين الأبرياء، تقتيلاً وتشريداً واغتصاباً! ودعا الخطاب في غير لبس أو غموض، إلى اعتبار الدعم السريع منظمة إرهابية، تهدد السلم والأمن الإقليميين والدوليين. وفي خاتمة الخطاب، أعرب البرهان عن تقديره لجهود الأمم المتحدة برعاية الأمين العام للأمم المتحدة، لدعم الوضع الإنساني في السودان، وجهود وكالات الأمم المتحدة المختلفة، والوكالات الدولية والإقليمية الأخرى. وكفاه فولكر بيريتس باستقالته، أن يشجب تدخل المبعوث الأممي السافر في شؤون خارجه عن تفويضه! وتعهد البرهان في خطابه للمجتمع الدولي التزامه بالتعهدات السابقة بنقل السلطة إلى الشعب السوداني “بتوافق عريض وتراض وطني، تخرج بموجبه القوات المسلحة نهائياً من العمل السياسي، ويكون تداول السلطة بالطرق الشرعية والسلمية المتمثلة في الانتخابات”.
فهكذا نجح خطاب البرهان في تسديد الهدف وتقديم مرافعة قوية ضد مليشيات الدعم السريع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!