همس الحروف.. قصة قصيرة جداُ .. الطالب عبد اللطيف و معركة اللحاق بعامه الدراسي .. و الخطوط الجوية السعودية ..!!! .. الباقر عبد القيوم علي
قصة كفاح كبيرة خاضها الشاب عبد اللطيف في خضم ويلات حرب ضروس لا أحد يعلم لها سبب منطقي غير إختلاف مزاج القادة و الساسة مع بعضهم حول كعكة الحكم ، فجرت خلفها مآسي و آلام و مرارات و ضياع أرواح و ممتلكات و سقطت فيها القيم و الأخلاق و دفعن فيها الحرائر أثمان باهضة أقلاهن الخوف المرعب من كل شيء حولهن ، فقد روعت هذا الحرب كامل الشعب السوداني و كشفت سوءة شرائح منه و بينت سواد نوايا البعض و قتلت جميع آماله العريضة و كذلك الفرح و قد.حطمت كل شيء جميل كان يحلم به الشباب ، و عرف المواطن أن الحياة في أوطان هشة ضرب من ضروب الضياع .
إندلعت الحرب يوم 15 من أبريل في يوم سبت نحس و كان من المقرر أن يسافر عبد اللطيف يوم 24 من نفس هذا الشهر ليلحق بداية عامه الدراسي في جامعته بماليزيا و لكن الحرب حالت دون ذلك حيث تم إغلاق جميع الأجواء و المواني ما عدا مصر التي فتحت أذرعها إلى جميع أهل السودان بكل ترحاب عبر معابرها الحدودية ، و لكن كان من الصعوبة بمكان أن يحصل على تأشيرة دخول إلى مصر بسبب تزاحم الشباب بقنصلية حلفا ، و حينها قرر السفر براً إلى إثيوبيا و من هنالك يمكنه أن ينطلق إلى وجهته التي يريد و ليته فعل ذلك و لكن المقادير ساقته إلى إحداثيات أخرى لشيء أراده الله ليكشف لنا سقطات أقوام كنا نظن فيهم الخير ، إلا أن ضمانات أمان الطريق إلى العاصمة أدس أبابا كانت ضعيفة جداً و محفوفة بالمخاطر و ذلك لأن إثيوبيا تعيش نفس ما يعيشه السودان من عدم إستقرار في الأحوال الأمنية بسبب الإحتراب .
أسرة عبداللطيف عاشت في قلق شديد و توتر و ترقب لتأخر إبنها من السفر و لكنها كانت مؤمنة بالمقادير السماوية ، و كانت تبحث له في كل الممكن و ذهبت أبعد من المستحيل لأجل تسهيل إجراءات سفره .
في تلك الأثناء نشرت بعض من الصحف المحلية و المواقع الإلكترونية ذات الثقة العالية في جودة أخبارها أن السلطات المختصة بولاية البحر الاحمر تنوه كل الذين لديهم إقامات في دول الخليج بإستثناء السعودية و كذلك الذين لديهم إقامات في الدول الآسيوية يمكن ان يتم نقلهم إلى وجهاتهم عبر الطيران القطري .. كم كانت فرحة عبد اللطيف و أسرته عظيمة بحجم ضخامة هذا الخبر الذي منحهم بارقة أمل عبر دولة عربية ، و خصوصاً أن تزكرة سفر عبد اللطيف كانت بداية على الخطوط الجوية القطرية .. فما كان من أسرته إلا و ان وضعوا آمالهم مع هذا الخبر موضع الجد و شدوا رحال إبنهم تواً إلى مدينة بورتسودان التي تبعد ألف كيلو متر من الخرطوم ، و في نفس الوقت كان السفر تحفه كثير من المخاطر ، إلا أنهم أودعوه أمانة الله و ودعوه بدموع سخينة و لسان حانهم يقول له إن شاء ما آخر وداع يا عبد اللطيف ، و لكن كم كانت المفاجئة صادمة بعد وصوله إلى مدينة بورتسودان ، حيث تكشفت لهم فيما بعد إن الخبر قد تبدلت فيه جزئيات كثيرة و تغيرت و هذه سمة معهودة في وطننا العربي ، و قد أصبح الأمر بقدرة قادر يخص فقط المقيمين في الدوحة ، و لكن عزيمة و شكيمة هذا الشاب الخلوق لم تنكسر أبداً من أجل تحقيق مراده حيث تحضرني رائعة الشاعر الإنسان عبد القادر الكتيابي التي تتجسد فيها قوة العزيمة لتحقيق الأهداف المنشودة و التي تقول :
لمحتك
قلت بر آمن .. بديت أحلم
ألملم قدرتى الباقية
وأشد ساعد على المجداف
تلوّح لى .. مدن عينيك
وترفع لى منارة بسمتك .. سارية
وبديت أحلم .
و ها هو عبد اللطيف الشاب الصغير ما زال يشد بساعده على المجداف و يصارع الأمواج العاتية هنا و هنالك لإقناع الإخوة القطريين المتواجدين بفندق السواحلي بمدينة بورتسودان بقضيته و بأهمية سفره و انه في كل الاحوال سيسافر عبر الدوحة إذا كان مطار الخرطوم مفتوحاً على الرغم بأن ليس لديه إقامة في الدوحة و لكن لم تكن هنالك آذان صاغية لتسمع حديثه ، فأصبح حديثه معهم كالحرث في البحر ، لأن هنالك بعض البشر لا يعيرون غيرهم أدنى إهتمام لإيصال صوتهم و قد سد هذا الباب تماماً في وجه هذا الشاب المكافح ، إلا أن الإيمان ما زال يملأ قلبه الصغير و هو ممن يثقون تماماً في فرج الله التي سيأتي لا محال .
ما زالت عزيمة الشاب عبد اللطيف متماسكة و لم تغادر البسمة شفتيه على الرغم من كل المعطيات السالبة حول أمر سفره ، و ما زال يصارع بضراوة الأسود ، حيث جلس بمدينة بورتسودان إحدى عشر يوماً يكافح بكل ما يملك لإنقاذ عامه الدراسي من الضياع ، فلم يستسلم قط و كأنه محارباً شرساً ، و ما زال يطرق بشدة كل الأبواب حتى علم أن أمر سفره يمكن إن يتم عبر الخطوط الجوية السعودية ، فما كان منه إلا أن جمع أشتاته في زمان تشتت فيه كل أمال الشعب السوداني و إستطاع بمشقة أن يوفر تزكرة سفر على شركة بدر للطيران من بورتسودان إلى جدة ، و كم كانت المشقة المادية في ظل ظروف حرب عبثية كانت من أجل الخراب ، و كم كانت المصاعب في توفير هذه التزكرة ، و التي يجب أن تكون ملحقة بتزكرة أخري من جدة إلى الرياض و من الرياض إلى كوالالمبور ، قد تكون حكاية هذا القصة هين في السرد ، و لكنه كان بحجم جبل أحد في صعوبته على أرض الواقع ، فكم كان شاقاً في ظل ظروف صعبة تمر بها بلادنا ، و تحت وطأة حرب عبثية قضت على الأخضر و اليابس ، و لكن بعزيمة هذا الشاب كانت تتكسر عنده الهزيمة تلو الهزيمة ، حتى حلقت به طائرة بدر و ها هو يرفع تمام وصوله من مطار جدة ، و هنا كانت تكبيرات أهله تتعالى فوق تقاطع أصوات طائرات الميج و مدافع المضادات الأرضية ، و كم كانت الفرحة تغمرهم لوصول إبنهم (بلاد الحرمين الشريفين) ، و سرعان ما أسرع عبد اللطيف ليكمل إجراءات سفره ، إلا أن العوائق التي تكون من صنع البشر الذين إختصهم الله بصناعتها لأجل تحطيم أحلام البعض من أجل التلذذ بها ، فحاولوا كأمواج هادرة تكسير جميع مجاديفه و كم كان هنالك كثير من العنت في إنتظارة ، و من المؤكد أن هذه الأمور شائعة عندما يتم إسناد المهمام إلى أناس ليسوا على درجة من المسؤولية و في نفس الوقت يدعون أنهم على درجة منها ، و هم أبعد ما يكونون عن ذلك ، ففعلوا معه ما يفعله الثور في مخزن الخزف ، إنهم موظفو الخطوط الجوية السعودية بمحطة جدة ، تعاملوا معه بكل برود و تعامل معهم بكل حماس ممزوج بالإحترام و الحب ، و كان يحدوه الأمل ، و الإيمان الذي يملأ قلبه و كم كان عظم ثقته في الله ، و هو على يقين تام بأن لن يتجرأ أحد على ظلمه في ديار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ، و سرعان ما بدأ الإحباط يتسرب إليه حينما أبلغوه أن هنالك مشكلة في إقامته في ماليزيا ، و قد أكد لهم بان ليس هنالك مشكلة و إن وجدت ، و طلب من الموظف أن يستمع إليه ليشرح له ، و لكن هيهات أن يستمع أمثال هؤلاء إلى أصوات الضعفاء لأن كثير منهم يملأ صدورهم الكبر ، و يوقر آذانهم التعالي و يصمها عن سماع أقوال أمثال عبد اللطيف ، و ما هو المعلوم بالضرورة لاصغر موظف في أي خطوط دولية يعلم بان السودانيون لا يحتاجون إلى فيزا لماليزيا ، إلا أنهم ركبوا رؤوسهم و بعد إقلاع الطائرة علموا أنهم أخطأوا في حق هذا الشاب الصغير ، فحاولوا معالجة الامر بإعطائه تزكرة لصعود طائرة و هي قد أقلعت من المطار ، حتى يخرجون بذلك من دائرة الحرج الذي وقعوا فيه و المسؤولية التي ستطالهم إذا كان هنالك رقيب عليهم ، و بعد 5 دقائق عاد إليهم عبد اللطيف ليخبرهم بخبر معلوم لديهم بأن الطائرة قد أقلعت قبل ساعة من منحه تزكرة صعودها ، فلم يمتعض لهم وجه عندما أعلمهم بذلك لأن حقيقة الأمر معلومة لديهم ، و قام بسؤالهم بكل براءة : و ما الحل ؟ فقالوا له إما أن تدفع غرامة تقارب سعر التزكرة او أن تستخرج تزكرة جديدة حتى بعدها تسمح لك الخطوط بمواصلة رحلتك و تناسوا كل الظروف التي تمر بها بلاده .. فكان من الممكن أن يعتبر هذا الأمر أمراً عادياً إذا كان وضع السودان طبيعياً و لسان حال عبد اللطيف يقول لهم أذكركم بقول الله تعالى الذي تجسد في المعنى : إذا استجار بك أحد من المشركين و ليس المؤمنين فأجره ، و خصوصا أن بلادهم بلاد نخوة وعزوة وإباء و شجاعة و هم شعب عظيم كريم تتسامى نفوسهم عن الذل والهوان لأي من قصدهم في حقهم الشخصي ، فما بال هؤلاء يضيعون حق هذا الشاب بعدم مسؤوليتهم ، تخيلوا معي ماذا فعل عبد اللطيف و هو شاب يانع في بلد غير بلاده و ليس معه أحد من الاهل أو الأصدقاء في هذا المكان إلا الله و ظروفه المادية يعلم بها الجميع .. و كان من الواجب و لزاماً على الخطوط الجوية السعودية تصحيح خطأ موظفيها و الإعتذار له إعتذاراً بحجم الضرر و يوازي حجم الضغط النفسي الذي تعرض له .. إلا أنه لم يجد مناص من أن يشتري من معدوم ماله تزكرة أخري ليلحق بمستقبل تعليمه و يتحمل بذلك خطأ أناس غير مسؤولين لتحمل أي مسؤولية حيث إستباحوا ظلم هذا الشاب المكافح في بلاد سلمان التي قل أن يظلم فيها أحد .. لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و سنتابع و سنواصل رسالتنا إلى أعلى جهة من أجل محاسبة هؤلاء حتى يكونوا عظة و عبرة لغيرهم في فن التعامل مع الآخرين .