- و حملت ورقي بيميني ووقفت امامها و هي تعود جالسة خلف مكتبها ، بعد ان نهضت لمصافحتي بحرارة ، جلست خلف مكتب غاية في الاناقة و و القيافة والنظافة، و الثانية غير الاولى ، بل هي تمام كمال الاولى في تفاصيلها الدقيقة في الاجادة التي تتجاوز كتلة الكم الي تفاصيل الكيف ، الثوب الابيض كان يضيف عليها و علي المكتب مهابة و جلال و رصانة و ذوق و رونق ، الابتسامة الودود الصارمة كانت جواز الدخول الي هذا المكان النائي في خلاء ام حراز الذي تم دون تعقيدات كثر رغماً عن الحراسة المشددة التي كان قوامها شرطة الاحتياطي المركزي بزي مميز ووجود مهاب .
-
نزلت من جوف بص جبل الاولياء بشباب غض وهندام نظيف و متأنق و لا غرو في ذلك و البص كان يسير عكس التيار ، فالكل وقتذاك و ساعتئذ كان يجري لدخول الخرطوم من قبلها الاربعة و من اتجاهاتها كافة الا هذا البص الذي امتطيته فقد يمم وجهه خارجاً نحو جنوب الخرطوم ، قلة عدد الركاب و طول الطريق و نفحات تهب من المزارع جنوب المدينة و مساحات شاسعة تمتد امام البص الذي كان يطوي الارض طيا ، السحنات ، القسمات الطيبة لركاب البص الازياء الموغلة في السودانوية التنوع في الجندر ، و الفئات العمرية و الديمغرافية التي سطعت امامي ، كل ذلك وفر لي جو مثالي ، أغراني بالاستغراق في حالة من التأمل و الانسياق خلف افكار متبتلة تترى بلا انقطاع .
المسافة التي تمتد اربعين كيلومترا من سنتر الخرطوم الي محطتي التى اقصد كانت كفيلة بان تتيح لي زمن اطول للتأمل و النظر الي البعيد الآتي .
عند بوابة المحطة كانت محطة نزولي ، الاولى كانت مجمع المحطات الارضية للاقمار الاصطناعية بام حراز جنوب الخرطوم و الثانية كانت محطة بص جبل الاولياء عند بوابة الاولى . دلفت من مدخل بوابة سامقة الطول الي الداخل ، شارع مرصوف يمتد الي مسافة نصف كيلومتر حتى البوابة الداخلية ، يمين الشارع و علي يساره تراصت اشجار ظليلة ، و غير بعيد في الجزء الشمالي الشرقي تطل جنينة المحطة بقطوفها الدانية من اشجار مثمرة ، يانعة الثمار تتدلى من فوق السور و كأنها تلوح للزائر بالتحية ، وبين الاقمار التي ادخلها و اقمار الشاعر عبيد عبدالرحمن تراءت امامي جمعته في شمبات حين قال “كلما العصفور يغرد / والنسيم يهفو ويبرد / تزدهى الأقمار تورد / واحدة صاحية وواحدة وسنى / وواحدة فاترة فاتنة حسنة ) . وصلت الي البوابة الداخلية و قد ارتفع الطبق الرئيس لمحطة الاقمار الصناعية عملاقاً ، شامخاً فوق سطح المبني الفخم ذو الطابق الواحد .نظرت اليه وقد ادهشني ارتفاعه و طول نصف قطره الذي امتد فارداً اوتاده يمنة و يسرة كجناحي نسر خرافي من عصر الكئنات الخرافية والديناصورات . نظرت اليه مأخوذاً ، و ما كنت اعتقد انه سيكون لي مع هذا الطبق العملاق صولات و جولات من العمل المتصل و التفاني مع زملاء و زميلات كانوا و كن كمطر العافية اينما وقعوا نفعوا .
خلصت اجراءات الدخول في سهولة و يسر و ترحاب شديد بالقادم الجديد الي ذياك المكان البعيد .
دخلت الي المبنى الفخيم حد الترف ، المرفه حد النعيم ، النظيف حد الوسواس القهري ، لفحت وجهي رشقات من نسائم تكييف مركزي شديد البرودة عالي الترطيب ، مررت الي ردهة واسعة ثم الي ممر قادني الي مكتبها .. المهندسة ليلي عباس هلال ، مددت اليها ورقة امر التحرك الصادر من رئاسة المؤسسة بالخرطوم قرأتها بسرعة وضعتها جانباً و بابتسامة صارمة طلبت مني الجلوس ، حدثتني عن المحطة الارضية العالمية للاقمار الاصطناعية ( انتلسات ) نظام العمل فيها ، نظامها الاداري ، الشباب الذي يعمل بها ، باشمهندس ليلي لم تقل لي ان احترام الآخر في المحطة مشتول في سويداء قلبٍ كل منسوبٍ لها ، و لم تقل لي لان تكون قائداً عظيماً لا بد ان تكون في المقام الاول انساناً عظيماً ، ليلي لم تقل لي حتماً أن حط الرحال لعمل ضافٍ و شاق يكون ختامه مسكٌ تقرير لانجاز العمل ، بمجهود نحرز فيه الدرجة الكاملة صوتاً وصورة و مواظبة ، انتباهاً و تفاني ، حضورا يقظ و حب دفاق ، لم تقل لي المهندسة ليلى ذلك بل رأيته و عايشته تحت ادارتها الرشيدة بالدليل و البيان الساطع لا بل كانت هي القائد الذي علمتنا كيف نستنشق شعاع الأمل حفزاً للعمل من بين ركام إشعاع المحطة وذرات غبار الاجهزة المؤيّن. بل ليلى هي من علمتنا أن الانضباط في العمل يبدأ بـ (النانو سكند) حزماً، ولا ينتهي بقدوم الليل الذي يقوم في (نصائصه) الباشمهندس رئيس الوردية يتمّم فيه ليل ووردية. عبيد عبدالرحمن استقبلني بخيال اغنيته ترتاد ثريا الاقمار ، عند اعتاب جنينة الاقمار و ما سمعته لم يفعل شئ غير انه جعل ذات الشاعر يدوزن في خيالي بعض كلماته ( نور جمال متسلسل / من خيار اخيار / نظم الكواكب سلسل / كوكبو السيار / فى الفرقدين والزهرة حبيبى ليه ديار / ما فى سماء الدنيا ، ده بعيد على الطيار )
طُلب من الصديق و الزميل المهندس الزين محمد المصطفى ان يكتب في مناسبة تكريم احد الزملاء فكتب وهو المفوه، نضيد الحرف ، ندي العبارة ، مخضر الكلام كتب يقول .”. ليست مجرد محطة، علا سيطها في حقبة من تاريخ السودان الحديث، ولم تكن مجرد علامة على أجندات التاريخ، بل منصة انطلاق لكل إبداع كامن في مقدرات شباب طموح.
دخلناها وقد تبدّل حالها من أم لشجر الحراز العنيد، لأم ولُود رؤوم. ودُود للتكنولوجيا المُمسكة بمشيمة التقيّس العالمي، وقد رعتها وهي تحبو على بلاط الرقمنة. كثيراً ما سهرت وأسهرتنا مع آلام تسنين الحوسبة والحوكمة، وكنّا جغرافيّاً في قرية سودانية تتوسد الضفة الشرقية للنيل الأبيض، إلا أن كل فعل داخل هذا الصرح، له مرجعية قياسية عالمية (التصميم، التشغيل، الدخول، الخروج. حتى النظافة و الطهي)انتهى كلام الزين وصدقت يا باشمهندس حتى النظافة و الطهي ، شهادة تسطع عبر التأريخ و شواهده التي لا تخون .
وقد كانت تقود هذا العمل الفني الدقيق بل قل الانساني الرفيع ، و تصنع التأريخ ليلي، نعم كانت على رأس العمل التنفيذي في محطة (انتلسات) عندما دخلتها لاول مرة هي المهندسة، السيدة الفضلى ليلى عباس هلال التي استطاعت أن تقود العمل في ذلك المكان النائي، بكفاءة ومقدرة. وأن ترسي أسس التعامل ، الشفيف والرشيد و العادل . كانت تشجّع الشباب على صقل المؤهلات وزيادة الخبرة، و الاجتهاد و التحصيل و زيادة المعارف و كانت في عهدها تضج المحطة و تمور بالمجلات و الدوريات و الكتب و المراجع العالمية ، و الاقراص المدمجة في التكنولوجيا و التطور العلمي و كانت فرص التدريب الخارجي في عهدها علي اشدها فما يمر يوم الا و كنا نودع مسافر او نستقبل عائد ، ما كانت المحطة العالمية عند مدرسة ليلي في الادارة تكتفى بان تحضر العالم باسره لنا من خلال الشاشة و الطبق العملاق بل كانت تجعلنا نذهب لنقتفي اثر العلم و التكنولوجيا في مظانها في دول العالم كلهاً شرقاً و غرباً . لذا عندما سبق وقلت انه “لم يكن مصادفة في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، أن يتسنّم العمل التنفيذي في أعلى (قمة تكنولوجية) في ذاك الزمان، سيدتان: ليلى عباس هلال وعلوية أحمد المصطفى ! الاولى في محطة انتلسات و الثانية في محطة سودوسات وهذا لعمري تمكين للمرأة التي استطاعت تأكيد جدارتها بهذا المنصب, كانت إدارات خيّرة وكفؤة، حققت الأهداف والمرامي. دون زلل ولا ابتعاد عن مسار وخارطة طريق الخطط, التحايا لهنّ أينما كنّ” . بل و قلت “و من الاشياء التي يتحتّم علي ذكرها بفخر، أنّ محطة الأقمار الاصطناعية العالمية (انتلسات) التي كانت على رأس العمل فيها ومديرتها، وقتذاك السيدة ليلى عباس هلال، كانت في زمانها أول مدير (امرأة) لمحطة أرضية للأقمار الاصطناعية (انتلسات) على مستوى العالم، ولم تتسنّم في زمانها ذاك، أية امرأة أخرى تلكم الوظيفة الرفيعة” .
ليلي عباس هلال كانت كل ذلك ، بل لم تك الأم الرؤوم ، الودُود للتكنولوجيا المُمسكة بمشيمة التقيّس العالمي، وراعية التقانة – التي اشار اليها الزين – وهي تحبو على بلاط الرقمنة لم تك سوى ليلى . بل ما قال الزين سوى الصدق حين ذكر .. كثيراً ما سهرت وأسهرتنا مع آلام تسنين الحوسبة والحوكمة . كم عدونا خلف علم وضعت ليلى و زميلاتها و زملائها بذرته الاولى و سقوها بالصبر الجميل وتوارثوا السهر عليها و تطويرها اجيال وراء اجيال منذ مد اول خط للتلغراف في العام 1866 الي ان صارت الاتصالات اليوم ، اختصاراً و اختزالاً باستخدام الرموز التعبيرية أو الإيموجي Emojis .. رمز صغير يطلقه يافع من هاتف ذكي في سماء اثير ينطلق عبر المسافات ليفصح و يقول المثير الخطر . تقول حقائق التأريخ أن خدمات الاتصال الهاتفي في السودان بدأت مع بناء السكة حديد في العام 1897م حيث أدخل معها خط تلفوني لأول مرة . بعدها، تعاقبت فيه وعليه، أجيال وأجيال . يعطي كل جيلٌ ما هو خلقٌ ومهيأ له. يعطي , يطور ، ثم يمضي ثم يأتي جيل جديد. تستمر حركة تعاقب الأجيال رواد في تقانة الاتصالات و التحول الرقمي ، ويذهب كل شيء، ويبقى العطاء شاهداً و شاخصاً على إخلاص الجهود وتجرّدها.
التحية و التجلة و الاحترام و التقدير و المحبة و السلام لها ليلي و لجيلها و هي من علمتنا الف باء التكنولوجيا على “تختة” طبق عملاق ثم شهدت ثمار ما خطته علي شاشة جهاز ذكي ، صقيل و صغير برسم جميل ، برمز تعبيري أو إيموجي Emojis نهديه لها 🌹و معها ❤️.