الأخبار

تحية لمصر.. وحنين إلى ذاكرة السودان بقلم: أمل أبو القاسم

شغلتنا تطورات الأحداث في الفاشر — تلك المدينة الجريحة التي تصارع الموت منذ أسابيع — عن متابعة افتتاح المتحف التأريخي العظيم في القاهرة، الحدث الذي تداعى له عشرات الملوك والرؤساء والوزراء من شتى بقاع العالم، في احتفاءٍ يليق بمجد التاريخ الإنساني، وبالحضارة التي نهضت على ضفاف النيل قبل آلاف السنين.
كان من المقرر أن يشارك في الاحتفال رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، لولا ما تشهده الفاشر وبارا من أحداث مأساوية هزّت وجدان كل سوداني، بل وكل من له صلة بالنيل وتاريخه الممتد بين ضفتيه.

وما الفاشر والسودان إلا جزء لا يتجزأ من ذلك التاريخ، فالنيل الذي يجري في القاهرة هو نفسه الذي عبر سهول دارفور وخصّب أراضيها، حاملاً في جريانه حكايات الممالك القديمة وسلطنة دارفور التي كانت، في فترات ازدهارها، بوابة إفريقيا نحو وادي النيل.
من هناك كانت القوافل تتجه شمالًا محمّلة بالذهب والعاج والصمغ العربي، ومن هنا كانت الرسائل تأتي بالعلم والمعرفة والعمارة، في تواصل حضاري وإنساني لا يعرف الحدود السياسية التي رسمتها الخرائط الحديثة. أو كما وصفها الأمين العام لجامعة الدول العربية الأيام الفائتة بـ ” قدر الجغرافيا”.

لكن بينما كان العالم يحتفي في القاهرة بتراثٍ صمد آلاف السنين، كانت الفاشر تدفن أبناءها تحت أنقاض البيوت المهدّمة، وتواجه حضارة أخرى — حضارة الموت — التي تسعى لطمس الذاكرة وقطع ما تبقّى من أوصال التاريخ.
أي مفارقة هذه بين مدينتين على ضفتي النيل، إحداهما تضيء ماضي الإنسانية، والأخرى تغرق في دماء حاضرها؟

نبارك لجمهورية مصر العربية هذا الحدث العالمي الفريد، الذي يمثل ليس فقط إنجازًا ثقافيًا ومعماريًا ضخمًا، بل توثيقًا حيًا لتاريخ وادي النيل الممتد آلاف السنين، حيث تلتقي حضارات السودان ومصر في جذور واحدة صنعت مجرى التاريخ الإنساني. فالمتحف الكبير لا يُبرز فقط كنوز الفراعنة، بل يعكس روح المنطقة كلها، بما فيها حضارات كرمة ونبتة ومروي وسلطنة دارفور التي كانت على صلات تجارية وثقافية ودبلوماسية قديمة بمصر.

لقد كانت دارفور، في مراحل ازدهارها، سلطنة متكاملة السيادة والنظام، امتدت تأثيراتها إلى وادي النيل، وكانت جسراً بين غرب إفريقيا ومصر والسودان الأوسط. فارتباطها بالحضارة المصرية ليس طارئًا، بل هو امتداد لتاريخ مشترك من التواصل والرحلات والتبادل الإنساني، مما يجعل أي احتفاء بالتراث المصري احتفاءً ضمنيًا بجزء من ماضي السودان أيضاً.

إن احتفال مصر بمتحفها الكبير يذكّرنا نحن السودانيين بضرورة صون تراثنا المنهوب والمهدد، وإعادة الاعتبار لمتاحفنا ومواقعنا الأثرية التي تشهد على مجد حضاراتنا القديمة، من كرمة حتى سنار ودارفور، فالأمم لا تنهض إلا بما تحفظ من ذاكرتها.

إن سلطنة دارفور التي عُرفت بالقوة والاستقلالية والازدهار، لم تكن يومًا معزولة عن تاريخ مصر ولا عن محيطها النيلي. كانت علاقاتها ممتدة، تبادلت فيها الممالك الهدايا والعلماء والرسل، وظل الرابط بين الشعبين أكبر من كل الطموحات السياسية العابرة.
واليوم، حين تُرتكب المجازر في دارفور، فإن ما يُستهدف ليس الإنسان السوداني وحده، بل جزء من ذاكرة وادي النيل بأكمله، جزء من حضارة الإنسانية التي يجب أن نحميها كما نحمي الأهرامات ومعابد الكرنك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *